ولبعض الباحثين القائلين بعلم الراسخين بتأويل المتشابه رؤية أخرى، تتمثل في أنه حتى على فرض لزوم الوقف على لفظ الجلالة، وكون الواو للاستئناف، فإن الآية لا تقتضي جهل الراسخين بالتأويل، من منطلق أن المعنى حينئذ يمكن أن يكون في هذه الجملة (وما يعلم تأويله) علما شاملا محيطا غير مكتسب إلّا الله، فلا ينافي ذلك علم غيره بالتأويل لكن لا على هذا الوجه التام المحيط غير المكتسب.
فعلى هذا، فالآية تخبر عن الراسخين في العلم بأنهم يقولون: آمنا به، ولم تتعرض إلى علمهم ولا إلى عدم علمهم، فهذه قضية مسكوت عنها في الآية، فكونهم يعلمون أو لا يعلمون مما يحتاج إلى دليل مستقل، وقد وجد من الأحاديث ما يدل على علمهم.
مما تقدم يتضح أنه ليس في القرآن متشابه بمعنى الذي لا يفهم معناه، لأن اشتمال القرآن على شيء غير مفهوم يخرجه عن كونه بيانا للناس، وهو خلاف ما أخبر الله به.
أما تفسير بعض العلماء للمتشابه بأنه لا يعلم، وأنه مما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وعلم الغيب وغير ذلك فإننا نقول لهم: إننا معكم أن هذا مما لا يعلمه إلّا الله، ونحن نسلم بذلك، ولكن تفسير المشابه بذلك مما لا نسلّمه.
وبعد: فإن هذا هو الرأي الذي تستريح إليه النفس لقوة حجته، ونصوع برهانه، أما نسبة القول إلى ابن مسعود وأبيّ فإنها لم تصح في مستدرك الحاكم.
كذلك الزعم بأن ابن عباس قال مثل قولهم غير صحيح، بل الأصح أن ابن عباس على خلاف قولهم، وقد تبنى رأيه تلميذه ابن مجاهد الذي قال بقول أستاذه:
(أنا ممن يعلم تأويله).
ولقد أيد هذا الرأي علماء أفذاذ كالإمام النووي الذي قال بأنه الأصحّ، لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
كما اختاره ابن قتيبة وقال:(ولسنا ممن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم، وهذا غلط من متأوّليه على اللغة والمعنى، ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلّا لينفع عباده ويدل على معنى أراده).