(٢) اختلف أهل العلم في تفسير قول المصنف: «وهذا مذهب من يزعم أن الخبر أقوى من القياس» فقال ابن حجر فيما نقله عنه البقاعي في «النكت الوفية» (٢/ ٤٠٦): «أي: من يزعم أنه لا يسوغ القياس مع إمكان الوصول إلى الخبر، فيمعن في الفحص عنه إلى أن يصل إلى اليأس من وجوده؛ ليكون المعنى حينئذ أنه يجب عليه أن يجتهد في تحصيل متن الحديث وفي معرفة تأويله؛ لأنه لا يسوغ له استعمال الضعيف بحضرة القوي، وما دام مترجِّيًا له فهو يعدُّه حاضرًا، لكن هذا التعليل لا يخص النزول، بل تارة يترجَّاه بعلو، وتارة بنزول، وهو مع القناعة بالنزول أقرب إلى ضعف الخبر؛ لأن مظان الخلل فيه أكثر فلم يُفِد هذا التعليل شيئًا». ثم قال البقاعي: «وأحسن منه فيما يظهر لي: أن تكون العبارة على ظاهرها، ويُعلَّل بأن العلو قلَّ أن يوجد مع غاية الإتقان؛ لأنه يتوقف على حداثة الآخذ وعلو سن المأخوذ عنه، وقلَّ أن يوجد في واحد من السنين تمام الضبط، ويؤيد هذا ما روى ابن خلاد بعد هذا في «من لا يرى الرحلة» عن عمر بن يزيد السياري أنه قال: دخلت على حماد بن زيد وهو شاك فقلت: حدثني بحديث غيلان بن جرير، فقال: يا فتى، سألتُ غيلان بن جرير وهو شيخ، ولكن حدثني أيوب، قلتُ: حدِّثني به عن أيوب، فحدثني.
فهذا وجه تفضيل النزول في الجملة. وأما أنه يخص من يجعل الخبر أقوى من القياس وهم الجمهور، فلا يظهر وجهه، ولا حُسن العبارة عند إرادته، وقد راجعتُ نسختين من «المحدث الفاصل»، إحداهما بخط الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السِّلفي، فوجدتُ العبارة كما نُقِل عنه، والذي أكاد أقطع به مع ذلك أنها مقلوبة، وأن أصلها: «هذا مذهب من يزعم أن القياس أقوى من الخبر» فإن ما يُعبَّر فيه بـ «الزعم» يكون مرذولًا، وقائله قليلًا، والذين يقدِّمون القياس ويجوِّزون فسخه به قليل جدًّا، وأما الأول فالقائل به جمهور الناس، وهو الصحيح الذي لا يُعدل عنه، فلا يصلح التعبير في جانبه بـ «زعم» على ما تعورف، ويكون مراد ابن خلاد التشنيع عليه بأن مراده إسقاط خبر الواحد، فإنه إذا فَضَّل النزول أبطل الرحلة، ومتى بطلت الرحلة، قلَّت الرغبة في الخبر وسقط كثير منه وضعف أمره، فآل ذلك إلى عدمه، وعدم التعويل عليه. ويدل على هذا أنه قال عقبه: «وفي الاقتصار على التنزيل في الإسناد إبطال الرحلة»، قال: «وقال بعض متأخري الفقهاء يذم أهل الرحلة» فذكر ما حاصله: إنهم بغوا على غيرهم فبدَّعوهم، ونسبوهم إلى الرأي .... » ثم ذكر ما ذكره المصنف هنا، وأطال في النقل عنه. وقال السخاوي في «فتح المغيث» (٣/ ٣٣٥): «يعني من جهة أن البحث - والله أعلم - في الخبر أكثر منه في القياس الجلي، أو لأن تقديم النازل مع اشتماله على كثرة الوسائط المقتضية لتكثير الخبر يتضمن ترجيح الخبر في الجملة. ويساعد هذا القول ظاهر قول ابن مهدي: «لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يطلب الإسناد» يعني: التغالي فيه».