كتاب المحدث الفاصل ت أبو زيد

القول في التعالي والتنزل فيه - ص: 209

تحيَّر فيه تحيُّرَ المفتون، وصار كالحِمار في الطَّاحون، وإنْ شاهَدَ المُذاكَرةَ سَمِع ما ليس في وُسْعِه الجَرَيانُ فيه، فلجأَ إلى الإزراء بفرسانِه، واعتصم بالطَّعن على الرَّاكضين في مَيْدانِه.

ولو عَرف الطَّاعِنُ على أهل الرِّحلةِ مقدارَ لذَّةِ الرَّاحل في رحلتِه، ونشاطِه عند فصولِه مِن وطنِه، واستلذاذِ جميعِ جوارحِه عند تصرُّفِ لحظاتِه في المناهِلِ (١) والمنازل والبُطنان (٢)

والظواهر، والنظرِ إلى دَساكِر الأقطار وغِيَاضِها (٣) وحدائقِها ورِياضِها، وتصفُّحِ الوجوه، واستماعِ النَّغَم، ومشاهدةِ ما لم يَرَ مِن عجائبِ البُلدان، واختلافِ الألسنةِ والألوانِ، والاستراحةِ في أَفْياءِ (٤) الحِيطان وظِلالِ الغِيطان (٥)، والأكلِ في المساجد، والشُّرب مِن الأَوْدِية، والنَّوْم حيث يُدركه الليلُ، واستصحابِ مَن يُحبُّ في ذات الله بسقوط الحِشْمة (٦)، وتَرْكِ التصنُّع، وكُنْهِ ما يصل إلى قلبه من السرور عند (٧) ظَفَرِه ببُغْيَتِه، ووصولِه إلى مَقْصَدِه (٨)،

---

(١) المناهل: هي المنازل التي في المفاوز على طرق المسافرين. «مختار الصحاح» (ن هـ ل).
(٢) في حاشية أمنسوبًا لنسخة: «والبطحان»، والمثبت من ظ، س، ك، أ، ي.

وبُطنان الأرض: قرار الماء ومستنقعه. «تاج العروس» (ب ط ن).
(٣) الدساكر: جمع الدسكرة، وهي القرية، وقيل: بيوت الأعاجم يكون فيها الشراب والملاهي، وقيل: بناء كالقصر حوله بيوت ومنازل للخدم والحشم. وغياض: جمع غيضة: وهي مجتمع الشجر في مغيض ماء يجتمع فيه الماء فينبت فيه الشجر. «تاج العروس» (د س ك ر، غ ي ض).
(٤) أفياء: جمع فيء، وهو الظل. «تاج العروس» (ف ي أ).
(٥) الغيطان: جمع الغائط، وهو المطمئن الواسع من الأرض. «المصباح المنير» (غ وط).
(٦) الحشمة: الحياء والانقباض، والمقصود بسقوط الحشمة هنا: ترك التكلف.
(٧) في المطبوعة: «عن» خطأ، والمثبت من جميع النسخ.
(٨) في حاشية أمنسوبًا لنسخة: «مقصوده»، والمثبت من ظ، س، ك، أ مصححًا عليه، ي.