بل شيئًا فشيئًا، وهكذا الشرائع أيضًا تأتي إلى النَّاس شيئًا فشيئًا، لاسيما هَذِهِ الأُمة، وإن كانت الأمم السابقة شرائعهم نزلتْ جملةً وَاحِدةً، وهذا من الآصار والأغلال الَّتِي كانت عليهم أن شَرْعَهم ينزل جملةً وَاحِدةً، ويلزمون به دفعةً وَاحِدةً، لكِن هَذِهِ الأُمة من رحمة اللَّه بها أَنَّهُ رتَّل القُرْآن ترتيلًا، حتى يُنَشِّئَهم على الإسلام وعلى شريعة اللَّه تنشئةً شيئًا فشيئًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما العيب في كون القُرْآن لم يَنْزِلْ جملةً وَاحِدةً؟
العيب أَنَّهُ ليس برسولٍ لِأَنَّهُ لو كان رسولًا لكان مثل غيره ينزل عليه القُرْآنُ جملةً مثلما نزل على من سبقه جملةً. وهي شُبهة في الحقيقة وليست بحجَّة، هي شبهة يريدون التمويهَ بها، وإلا فليس هَذَا -أنه يأتي بالوحي شيئًا فشيئًا- إطلاقًا بشَيْءٍ يَمنع من صدق رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لكِن هم يَقُولُونَ هَذَا بالإضافة إلى ما سبق في سورة النحل حيث قالوا:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}[النحل: ١٠٣]، إذا أضفتَ هَذَا إلى ما سبق كأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: هو يُلقَّن القُرْآن تلقينًا، وإلا لنَزَل عليه جملةً وَاحِدةً كغيره من الأنبياء.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ألَا يَكُون قول المشركين: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} اعترافًا منهم بأن القُرْآن منزل من عند اللَّه؟
الجواب: لا، هم لم يعترِفوا، يعني على حسَب دعواه، حيث إنهم يَقُولُونَ: إذا كان نازلًا من عند اللَّه، إذَن لماذا لم ينزل عليك من اللَّه جملةً وَاحِدةً إنْ كنتَ صادقًا، فهذا ليس إقرارًا منهم بالإنزالِ، لكِن يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يقول: إِنَّهُ نَزَلَ عليه القُرْآن من اللَّه لماذا لم ينزل عليه جملة وَاحِدة؟ وأيضًا لا يوجد تناقض بين هَذِهِ الآية وبين قولهم: إن هَذَا كَلام ساحر يسحر النَّاس.