ونحن إذا ذهبنا إلى الرأي الثَّاني لم نرتكِبْ إلا شيئًا وَاحِدًا فقطْ وهو تقديمُ الهمزةِ عن مكانها، وهذا شَيْءٌ بسيط، فالَّذِي يَنبغي سُلُوكُه أن نقول: إن همزة الاستفهام هنا داخلةٌ على الجملةِ الموجودةِ بدونِ تقديرٍ، لكنَّها مقدَّرة بعد حرفِ العطفِ، إلا أنها قُدِّمت لأجلِ الصدارةِ، وهنا {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} إذا دخلت همزة الاستفهام على (لم) فالمراد به التقرير، ومعنى التقرير حَمْل المخاطَب على الإقرارِ، مثلًا قوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح: ١]، نقول: الهمزة للاستفهام، المراد به التقرير، المهم أن هَذِهِ ليست للاستفهام والاستخبار، فاللَّه جَلَّ وَعَلَا لا يَسأَلُ ولكنَّه يُقَرِّر أَنَّهُ شرح له صدره، ومعنى التقرير حَمْلُ المخاطَبِ على الإقرارِ، وكأنَّ ذلك متقرِّر ولا يمكِن إنكارُه؛ لِأَنَّهُ معلوم، فيَجِب عليكَ أنْ تُقِرَّ به.
في الآية الكريمةِ:{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} نقول: الاستفهام للتقريرِ، يعني أَنَّهُمْ قد رَأَوْهَا، وإذا كان بمعنى التقريرِ فَإنَّهُ يقدَّر بفعلٍ ماضٍ مَقْرُونٍ بـ (قد)، يعني مثلًا قوله: لَكَ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ}[الشرح: ١]، معناها قد شَرَحنا لكَ، لكنْ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} أبلغُ، فقوله:{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} معناه أَنَّهُمْ قد رَأَوْها، وهم يُقِرّون بذلك، ولا يمكن إنكارُه، لكِن الإتيان بالاستفهام أبلغُ لِأَنَّهُ يحمل المخاطَبَ على أن يقرَّ، وهذا أبلغُ من أن أُصدِّره بأمرٍ على سبيلِ التحقيقِ بـ (قد).
يقول المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ في وصف الرؤيا: [{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} في سَفَرِهم إلى الشامِ فيعتبرون]، وهذا صحيح أن الإنْسَان إذا عاينَ آثارَ العذابِ يَكُون أشدَّ في يقينِه وتصديقه، لِأَنَّهُ (ليس الخبر كالمُعاينة)، وإِبْراهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لا يشكُّ أن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادرٌ على إحياءِ المَوْتَى، ومعَ ذلكَ قال عَلَيْهِ السَّلَامُ:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}[البقرة: ٢٦٠]، وقال النَّبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ