للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بل قد يَكُون قبله ولَكِنَّه ذُكِرَ بعده، هذَا يُسمِّيه العلماء الترتيب الذكريّ، ولَكِنَّهم لا يَلْجَئُون إليه إِلَّا عندَ الضرورةِ، إذا لم يُمْكِنِ الترتيبُ المعنويُّ قالوا: هو ترتيبٌ ذِكْرِيٌّ، وأنشدوا عليه البيتَ المشهورَ الَّذِي لا أعلمُ قائِلَه، وهو (١):

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قَد سَادَ بعدَ ذَلِكَ جَدُّهُ

قالوا: إنَّ هذَا من بابِ الترتيبِ الذكريِّ؛ لِأَنَّ سِيادةَ الجدِّ متقدِّمةٌ عَلَى سيادةِ الأبِ، وسيادةَ الأبِ متقدِّمَةٌ عَلَى سيادةِ الِابْنِ، هذَا هو المعروفُ والمعهودُ، وإن كَانَ قد يَكُونُ الأمرُ بالعكسِ؛ قد يَسُودُ الحفيدُ وبسيادتِهِ يسودُ أبوه ثم يسود جدُّه، لكِن المعروف بالعكسِ.

عَلَى كلِّ حالٍ هذَا الترتيبُ فِي الآية ترتيبٌ معنويٌّ؛ لأنَّهُ الأَصل، ولا يُلْجَأُ إِلَى الأوَّلِ إِلَّا عند الضرورةِ.

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {اسْتَوَى} يَعنِي عَلَا عَلَى العرشِ، وهذا العلوُّ عُلُوٌّ خاصٌّ، لَيْسَ كالعلوِّ عَلَى سائرِ المخلوقاتِ؛ لأنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عالٍ عَلَى جميعِ المخلوقاتِ علوًّا مُطلَقًا، لكِن هذَا العلوّ عَلَى العرش علوٌّ خاصٌّ، وأنه من الصِّفاتِ الفعليَّة، وأن أهل السنَّة والجماعَة يؤمنون بذلكَ عَلَى الوجهِ الَّذِي يَليق باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا يُكَيِّفُونَ ولا يُحاوِلونَ أنْ يُكَيِّفوا أَيْضًا؛ لأنَّ ذلكَ أمرٌ مُستحيلٌ، وهو يدلُّ عَلَى كمالِ العالي؛ لِأَنَّ هذه المادة {اسْتَوَى} تدلّ عَلَى الكمالِ مِن حيثُ هي، تقول: استوَى الثَّمَرُ بمعنى كَمُلَ نُضْجُه، وتقولُ: استوى الرجلُ بمعنى كَمُلَ عَقْلًا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: ١٤]، هنا إذا تَعَدَّتْ بـ (على) صارتْ دالَّةً عَلَى العلوِّ، لكِن متضمِّنة للكمالِ، فعلى هذَا يَكُونُ (استوى) بمعنى عَلَا علوًّا خاصًّا عَلَى وجهِ الكمالِ.


(١) من شواهد مغني اللبيب (ص ١٥٩). وانظر الجنى الداني (ص ٤٢٦).

<<  <   >  >>