للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فدلَّ هَذَا عَلَى أنَّ المُشَاهِدَ لِلْعَاصِي -سواء كَانَ قاعدًا أو مُضْطَجِعًا أو واقفًا- مثل العاصي حُكْمًا عندَ اللَّهِ، وهذا فِي كلِّ المعاصي، إِلَّا مَن أُكْرِهَ عَلَى الحضورِ فهذا شَيْءٌ آخَرُ لا حُكْمَ له، كمَن أُكرِه عَلَى الفعلِ.

قَالَ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} مِنَ الكَلامِ القبيحِ وغيره {مَرُّوا كِرَامًا} مُعْرِضِينَ عنه].

قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} اللغوُ الصوابُ أَنَّهُ لَيْسَ الكَلامَ القبيحَ؛ لأنَّ الكَلامَ القَبيحَ داخلٌ فِي الزُّور، لكِن المراد باللَّغْوِ ما لا فائدةَ فيه، فكلُّ ما لا فائدةَ فِيهِ فَهُوَ لَغْوٌ، وذلكَ لِأنَّهُ لا يُقْصَد، ومَا لَا يُقْصَدُ فَهُوَ لغوٌ {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: ٨٩]، فاللَّغْوُ ما لا فائدةَ فِيهِ، سواءٌ كَانَ قولًا أو فِعْلًا.

وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} لم يَقُلْ مثلَما سَبَقَ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}؛ لِأَنَّ هناك خِطَابًا معيَّنًا مباشرًا، فلا بدَّ أنْ يقولوا قولًا يَسْلَمُونَ بِهِ، لكِن هنا يَمُرُّون بالشَيْءِ بدونِ أنْ يُخَاطَبُوا بِهِ، والمراد بِالُمُرورِ بِهِ سواء كانوا مارِّينَ فِي طَريقٍ أو جالِسِينَ، فجاء شَيْءٌ لَغْوٌ لا فائدةَ فِيهِ، فإنهم يَمُرُّونَ كِرَامًا، ومعنى مرّ الكِرَام هنا أي أَنَّهُمْ لا يَلْحَقُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، بل يُحاوِلون الإصلاحَ؛ لأنَّ الكريمَ يُعْطِي غيرَه، يَنْفَعُ نفسَه وغيرَه، فهم إذا مَرُّوا باللَّغْوِ يَمُرُّونَ كِرامًا، يحاولونَ أنْ يُفيدُوا من وُجُودِهِمْ، وذلك بأنْ يَنْقُلُوا هَذَا اللغوَ إِلَى أمرٍ مفيدٍ، ولهذا قال: {مَرُّوا كِرَامًا}، لم يَقُلْ: {قَالُوا سَلَامًا}؛ لِأَنَّ هناك يخاطبون بما يُسِيءُ إليهم، فيَقُولُونَ قَوْلًا يَسْلَمُونَ بِهِ؛ لأنَّ المَقَامَ يَقْتَضِي أنْ تُسَلِّمَ فقطْ، لَكِنْ هنا لا يُؤْذَوْنَ إِنَّمَا يمرُّونَ بِلَغْوٍ لا فائدةَ منه، فيمرون كِرَامًا مُفِيدِينَ ومُسْتَفِيدِينَ.

<<  <   >  >>