للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد قارن اللَّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بينَ شيئينِ بينهما من التبايُنِ أعظم من التباين في وَعيد أهل النار ووعد أهل الجنة؛ فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: ٥٩]، ومعلوم أن اللَّه خيرٌ وأنه لا يمكِن لأيِّ عاقلٍ أن يقارِن بين هَذَا وهذا، لكِن لمَّا كان المخاطَبون يُساوون غير اللَّه باللَّه صارَ من بابِ التنزُّل معهم أن نخاطِبَهم بهذا ونقول: {اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}.

وقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} أضافها إلى الخُلد من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صِفتِه، يعني الجنة الَّتِي هي مكان الخُلد، والخلد معناه المُكث، وقد صرَّح اللَّه تَعَالَى كثيرًا بالتأبيدِ في خلودِ أهلِ الجنَّةِ، وأمَّا أهل النار فالتأبيدُ وَرَدَ في ثلاثِ آياتٍ من القُرْآنِ؛ في سورة النساءِ وفي سورة الأحزابِ وفي سورة الجنِّ؛ ففي سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: ١٦٨ - ١٦٩]، وفي سورة الأحزاب {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥]، وفي سورة الجِنّ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: ٢٣].

وفي هَذَا ردٌ واضِحٌ على من قالَ: إن عذابَ النار غير مؤبَّد، وممن مال إلى هَذَا القول -وهو من أغرب ما يَكُونُ- ابنُ القيِّم رَحِمَهُ اللَّهُ، حيث كان يميل إلى أن عذاب النار لا يؤبَّد، وأنه لا بد أنْ يَنتهيَ، ولكن لا يقول: إِنَّهُ يَنتهي ثم يَنتقل أهل النار إلى الجنة، لا، لكِن ينتهي بمعنى أنها تَفنَى ومَن فيها، وابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ ذكره في شفاء العَليل، وجَزَمَ به في أولِ الكَلامِ، ثم ساق الآثارَ في هذا (١).


(١) (ص ٢٥٥ وما بعدها)، ط. دار المعرفة.

<<  <   >  >>