للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في هذا الباب ذكر منازل الأحباب وديارهم وأطلالهم وآثارهم، ومن وقف على آثار ديار أحبابه فعرفها أو شكّ فيها، وذكر من هيَّجته الرُّسوم فبكى بدمعه السَّجوم، حين عاين آثار أحبابه بعد الفراق، فتذكَّر أيّامهم وحنَّ واشتاق، وخاطب الدّار، وبكى على ما عفا من الآثار، إلى غير ذلك من ذكر السَّراب والآل، إن شاء الله.

قال أبو بكر محّمد بن الحسن: من أحسن ما خوطبت به الدّيار قول عدىّ بن الرِّقاع:

فسُقيتِ من دارٍ، وإِن لم تَسمَعِى ... أَصواتَنا، صَوْبَ الرَّبِيع المُسْبِلِ

ورُعِيتِ من دارٍ وإِن لم تَنْطِقِى ... بجَوَابِ حاجِتنا وإِن لم تَعْقِلىِ

قد كَانَ أَهْلُكِ مَرّةً لك زِينَةً ... فتَبَدَّلوا بَدَلاً ولم تَسْتَبْدِلىِ

فابْكِى إِذَا بَكَتِ المنَازلُ أَهلَها ... مَعْذورَةً وظَلَمْتِ إِن لم تَفعَلِى

ولأبي المشيَّع جبر بن خالد بن عقبة بن سلمة بن بعمرو بن الأكوع:

أمَنْزِلَتَىْ جُمْلٍ سلامٌ عليكما ... وإِن هِجْتما شَوقاً ولم تَنْفَعَا صَبَّا

يُبَرّحُ بي أَلاّ أَزالَ أَراكمُا ... فيغصبُنِى لُبِّى الهَوَى منكما غَصْبَا

أَلاَ طالَما هَيَّجْتُمَا بُرَح الهَوَى ... بقَلْبٍ سَقيمٍ لم يُطِق للنَّوَى شَعْبَا

ولمكنف بن ثميلة من ولد زهير بن أبي سلمى:

حَتَّى متَى أَنا بالدِّيارِ تَبِيلُ ... وجَدَى الدِّيَارِ ونَفْعُهُنّ قَلِيلُ

هَاجَتْ بذِى بَقَرٍ عليك صَبَابَةً ... دِمَنُ الدِّيَار ورَسْمُهنّ مُحِيلُ

إنّ المَنَازِلَ لا تَزالُ على البِلَى ... بالطَّلْحِ تَشْعَفُنى لهنّ طُلولُ

فسَقَى بذِى بَقَرٍ دِيَارَكِ مُسْبِلٌ ... هَزِمٌ يَجود عِرَاصَهَا ويَسِيلُ

ولغيره:

ذَكَّرَنِى وَادِى الأَرَاكِ المُجدِبُ

عَهْدَ صِبىً فيه لَسَلْمَى مَلْعَبُ

وَهْوَ بعُمْرَانِ الجَميعِ مُخصِبُ

يَطِيبُ فيه عَيْشُهُم ويَعْذُبُ

فأخرَبَ العامِرَ دَهْرٌ مُخرِبُ

فالشَّكُّ فيه لليَقيِن يَحْجُبُ

يَبْعُدُ في ظَنٍّ به ويَقْرُبُ

مُصَدِّقٌ قَلْبِى وطَرْفِى مُكذِبُ

وهذا ممَّن عرف دياره وديار أحبابه بقلبه، وأنكره طرفه لتغيُّره، وأوّل من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس.

حدَّثني عليُّ بن الصَّبَّاح ورَّاق أبي محلّمٍ، قال أبو محلّم: أتعرف لامرىء القيس أبياتاً سينيَّةً قالها عند موته في قروحه والحلَّة المسمومة التي ألبسها غير أبياته ال أوَّلها:

ألما على القديم بعسعساه

فقلت: لا أعرف غيرها فقال يلى أنشدي جمامة من الرواة:

لِمَن طَلَلٌ دَرَسَتْ آيُهُ ... وغيَّرهُ سالفُ الأحْرُسِ

تنكَّرهُ العَنْنُ من حادثٍ ... ويَعرِفُه شَعَفُ الأَنْفُسِ

فهذا المعنى الذي ابتدأه امرؤ القيس، وأحسن كلَّ الإحسان فيه، وجاء به المحدث في أبياته الرَّجز التي ذكرتها، وأنا أذكر أبيات امرىء القيس لأنّها غريبة حسنة ثم أعود إلى ذكر من أخذ منه هذا المعنى:

فإمّا تَرَيْنِىَ بي عَرَّةٌ ... كأَنِّي نَكيِبُ من النِّقْرِسِ

وصَيَّرني القَرْحُ في جُبَّةٍ ... تُخالُ لَبِيساً ولم تُلْبَسِ

تَرَىْ أَثَرَ العَرّ في جلدْتى ... كما تَرْقُمُ الكَفّ في الأَطْرُسِ

وتُنْقُش فيه على نكْأةٍ ... كما ينقشُ الخَتْمُ في الجِرجسِ

فياربَّ يوم أجرِّع فيه المنيّة من شئت بالأكؤس الجرجس طين الختم، والجرجسانة الطِّينة منه والجرجس من البقّ يقال له: القرقس، فأخذ طريح بن إسماعيل الثَّقفىُّ قوله:

تنكَّرُهُ العينُ من حَادثٍ ... ويَعرفُهُ شَعَفُ الأَنفُسِ

وقال:

يَسْتَخْبِرُ الدِّمنَ القِفَار ولم تكن ... لِتَرُدَّ أَخْبَاراً على مُسْتَخبرِ

فظَللْتَ تَحْكُم بين قَلْب عارِفٍ ... مَعْنَى أَحِبَّتِهِ وطَرْفٍ مُنكِرِ

فأخذه أبو نواس فقال إلاّ أنّه قلبه فجعل الإنكار للقلب:

<<  <   >  >>