للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوجه الثالث: أنه قد ظن طائفة من الجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، أن مراد إبراهيم - عليه السلام - بقوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام - ٧٦] أن هذا خالق العالم، وأنه استدل بالأفول، وهو الحركة والانتقال، على عدم ربوبيته، وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام، وحدوث العالم، وهذا غلط من وجوه:

أحدها: أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء، لا من قوم إبراهيم ولا غيرهم، ولا توهم أحدهم أن كوكباً، أو القمر، أو الشمس، خلق هذا العالم، وإنما كان قوم إبراهيم مشركين، يعبدون هذه الكواكب، زاعمين أن في ذلك جلب منفعة، أو دفع مضرة، ولهذا قال الخليل: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام - ٧٨] ، وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء - ٧٥ - ٧٧] ، وأمثال ذلك١.

الثاني: أنه لو كان قوله: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام - ٧٦] ، هذا رب العالمين، لكانت قصة إبراهيم - عليه السلام - حجة عليهم؛ لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين، وإنما المانع هو الأفول، وقد أخبر الله في كتابه، أنه من حين بزغ الكواكب والقمر والشمس، وإلى حين أفولها، لم يقل الخليل لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات، ولا الحوادث. والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء، فلم يقل إبراهيم لا أحب الآفلين، إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئياً ولا مشهوداً، فحينئذ قال لا أحب الآفلين، وهذا يقتضي أن كونه متحركاً منتقلاً تقوم به الحوادث، بل كونه جسماً متحيزاً تقوم به الحوادث، لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته٢.

أما من فسر الأفول بالإمكان من الفلاسفة، فإن قولهم أبعد بكثير عن الصحة، ممن فسر الأفول بالحركة، وأفسد منه، ووجوه الرد عليه كثيرة منها:


١ - انظر: بيان تلبيس الجهمية ١/٥٢٨.
٢ - انظر: المرجع السابق ١/٥٢٩.

<<  <   >  >>