للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عللها في غيرها من الأحوال المتناهية. فمن شأن طبيعة الإنسان المتناهية أن تدعه غير معقول عند نفسه؛ وهو إنما يعقل ذاته بردها إلى النظام الكلي السرمدي، واعتبارها جزءًا من الجوهر الأوحد.

ب- وليس هناك ما يسمى بقوى النفس، فلا تمييز بين نفس وقوى. ومن ثمة لا تمييز بين إرادة وعقل، ولكن الإرادة ترجع إلى العقل من حيث إن كل فكرة فهي تتضمن إيجابًا, أي: إن الإرادة ميل العقل إلى قبول ما يروقه من المعاني واستبعاد ما لا يروقه. فما يسمى بالفعل الإرادي هو فكرة تثبت نفسها أو تنفي نفسها، وما يسمى بالتوقف عن الحكم هو حالة عدم إدراك الفكرة على نحو مطابق، ولما كانت الأشياء جميعًا معينة بما في الطبيعة الإلهية من ضرورة الوجود والفعل، لم يكن في الطبيعة ممكنات، ولم يكن في النفس إرادة حرة، ولكن النفس معينة إلى فعل كذا أو كذا بعلة هي أيضًا معينة بعلة، وهكذا إلى غير نهاية. ليس الإنسان مملكة في مملكة، فالشعور بالحرية خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض، وإنما يعتقد الناس أنهم أحرار؛ لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف أنه حر في أن يهرب، ويظن السكران أنه يصدر عن حرية تامة فإذا ما ثاب إلى رشده عرف خطأه. ولو كان الحجر يفكر لاعتقد أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وعلى ذلك فالغضب من الأشرار سذاجة، إذ ليس الأحمق ملزمًا أن يحيا وفق قوانين العقل، كما أن الحر ليس ملزمًا أن يحيا وفق قوانين طبيعة الأسد ١.

ج- حياتنا العملية إذن تابعة لحياتنا العقلية، وتختلف باختلافها. ففي معرفة الضرب الأول، القاصرة على الحواس والمخيلة أي: على أفكار غير مطابقة، نتصور ذاتنا شخصًا قائمًا بنفسه، والأشياء المحيطة بنا خيرات أو شرورًا في أنفسها، فنحس من جزاء ذلك شتى الانفعالات المضنية المرهقة تتوالى علينا كما يتفق حسب توارد الأحداث. في هذه المرحلة نطلب الأشياء ونهرب منها لمحض الاشتهاء والكراهية، لا لحكمنا بأنها خير أو شر؛ بل إننا ندعو الشيء خيرا أو شرا بسبب طلبنا إياه أو كراهيتنا له. فلا حياة خلقية في هذا الضرب من المعرفة، وإنما كل ما هنالك عبودية للشهوات.


١ انظر أيضًا الرسالة اللاهوتية السياسية ف ١٦.

<<  <   >  >>