د- وفي معرفة الضرب الثاني نعلم أن الطبيعة خاضعة لقوانين كلية، وأننا جزء من هذه الطبيعة، فنهتدي بأفكارنا المطابقة ونصير فاعلين بعد أن كنا منفعلين؛ ذلك أننا حالما ندرك بالعقل أن أفراحنا وأحزاننا نتائج القوانين الطبيعية، نكف عن محبة الأشياء وبغضها، وعن استشعار الحزن والخوف والرجاء واليأس والغضب والسخرية؛ فلا نطلب شيئًا إلا لاتصاله بميلنا الأساسي الذي هو حب البقاء، وبالقدر الذي يكفل البقاء، مرجعين هذا الميل إلى ميل الطبيعة جمعاء, ومعتبرين شخصنا جزءًا من الطبيعة لا يتجزأ، فتصدر أفعالنا عن طبيعتنا ونكون علتها الكاملة. في هذه المرحلة نحصل على الفضيلة بمعنى الكلمة، أي: على قدرة العمل طبقًا للقوانين الكلية، وتكون النفس في سرور متصل يترجم عن كمالنا وقدرتنا الناتجين من العلم, أما أفعالنا الصادرة عن رجاء الجنة وخوف جهنم، فليست فاضلة. والفضيلة الأساسية القوة أو الشجاعة تجعل الإنسان حرا مستقلا، فإن الحرية الحقة تقوم في اتباع ضرورة طبيعتنا بما نحن جزء من الكل. وفي هذه الحالة تعود الأشياء الخارجية خيرات أو شرورًا، لا في أنفسها، بل بالإضافة إلينا حسب ما توافق حب البقاء أو تضاده فتزيد في كمالنا أو تنتقص منه. فمن الحكمة أن نستمتع بالحياة ما وسعنا الاستمتاع، فنصلح جسمنا بغذاء لذيذ، ونمتع حواسنا بأريج الزهر ورونقه، بل أن نزين ثيابنا، ونستمتع بالموسيقى والألعاب والمشاهد وكل ما لا يضر أحدًا من الملاهي. والموت آخر ما يفكر فيه الرجل الحر؛ إذ ليست الحكمة تأمل الموت بل تأمل الحياة.
هـ- وبالمعرفة التي من الضرب الثالث ندرك ذاتنا، ليس فقط كجزء من الطبيعة، مما يدع مجالًا لضرب من التمييز والتضاد بين الإنسان والطبيعة، بل ندرك ذاتنا صادرة عن طبيعة الله، إذ إن الفرد في حقيقة الأمر فكرة مجردة، وليس الموجود الحق هو الفرد منفصلًا عن الكون، ولا القانون الذي يربط الفرد بالكون، بل الكون نفسه معتبرًا، لا كجملة أجزاء، بل كوحدة جوهرية حاصلة في ذاتها على علة وجودها. في هذه المرحلة نرد السرور الذي يملأ نفسنا إلى الله علة الحقيقة ومبدأ القوانين السرمدية. هذا السرور مصحوبا بفكرة الله هو محبة الله، والإنسان هو العلة الكاملة لهذه المحبة، وهي خالصة لا يقابلها محبة من جانب الله؛ لأن الله بريء من الانفعال. وتلك هي الحياة الأبدية