للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٥١ - تعقيب:

أ- ذلك هو المذهب, وقد نعتبر الاعتقاد بوحدة الوجود حدسًا شخصيًّا خطر لسبينوزا أو عرضه عليه ذلك الطبيب الذي علمه الفلسفة، فشرع هو يشيد هيكله بما وجد من مواد عند ديكارت والرواقيين. ولكن هذا الحدس تأيد عنده بالتفكير في صعوبات الفلسفة الديكارتية، وبأن في نظره علاجًا لها. هذه الصعوبات ترجع إلى فكرة العلية، فقد وزع ديكارت ظواهر الطبيعة إلى طائفتين، إحداهما مادية والأخرى فكرية، ثم عجز عن تفسير العلاقة بين النفس والجسم في الإنسان لتباين هذين الجوهرين، فاعتقد سبينوزا أن "العلة والمعلول يجب أن يكونا من نوع واحد" ١ بحجة أن ما يكون في المعلول دون أن يكون لذاته في العلة، يكون صادرًا عن العدم، مع أن ديكارت نفسه كان قد قال، أخذًا عن المدرسيين: إن ما في المعلول يجب أن يكون في العلة على صورته أو على نحو أسمى. فلزم عند سبينوزا أن الكل واحد ضروري، وأن الجوهر الأوحد علة باطنة لجميع الظواهر، هي في معلولاتها ومعلولاتها فيها، ومحا العلة المفارقة المتعدية إلى خارج، فمحا ثنائية الله والعالم، وثنائية النفس والجسم والتفاعل بينهما، تمايز العقل والإرادة، على ما يقتضي المذهب الأحادي من محو كل تمييزات، فانتهى بذلك إلى الآلية المطلقة وهي المثل الأعلى الذي يرمي إليه العلم الحديث، ومحا الغائية، وقصر معنى العلية على علية الدعوى أو الترابط المنطقي دون علية الوجود أو الفاعلية، وفاته أن يسوغ المبدأ الذي يقوم عليه مذهبه كله, وهو أن الوجود مطابق للمعاني وللعلاقات التي يكشفها العقل في نفسه.

ب- ولكنه وقع في نفس الصعوبات وفي أخرى غيرها, فهو من الجهة الواحدة لم يوفق بين وحدة الجوهر وكثرة الصفات والأحوال، أي: لم يبين كيف يمكن أن يصدر عن الجوهر الواحد الثابت غير المعين، صفات وأحوال لا نهاية لها متغيرة إلى ما لا نهاية، تعينه بالضرورة ما دامت هي صفاته وأحواله، بعد أن قال: إن كل تعيين حد وسلب، ولم يبين بالقياس ضرورة كون الجوهر


١ كتاب الأخلاق م ١ مبدأ ٤ , ٥.

<<  <   >  >>