وحدة الجسم, والجسم وجهة نظر النفس. وما المكان إلا "نظام الأوضاع" ينشأ حين ندرك عدة ظواهر في وقت واحد؛ وما الزمان إلا "نظام المواقف المتعاقبة" فليس المكان والزمان شيئين متمايزين من المونادات وسابقين عليها، كما يتوهم نيوتن وأتباعه. ولكن إذا كان العالم الخارجي ظاهريًّا، فما الفرق بينه وبين رؤى الأحلام؟ الفرق أن الإحساس أقوى وأدق من الرؤيا، وأن الأجسام التي تبدو فيها المونادات هي ظواهر لها أصل ومرتبطة بعضها ببعض بعلاقات ثابتة, أو قوانين كلية تسمح لنا بتوقع ظاهرة بعد أخرى فيتحقق توقعنا، بينما صور الأحلام مجرد ظواهر لا أصل لها, على أن اليقين بهذه العلامات أدبي لا ميتافيزيقي.
ز- التمييز بين الظواهر الحادثة والقوانين الكلية يثير مسألة أصل المعرفة وقيمتها. يريد لوك أن تكون جميع معارفنا وليدة التجربة، ولكن في النفس معارف ليست آتية عن طريق الحواس، هي المبادئ الضرورية والحقائق الكلية. إننا نطبق عفوًا مبادئ لا ندركها إدراكًا صريحًا إلا فيما بعد، وننكر التناقض ولو لم نسمع قط بمبدأ عدم التناقض. وعلى هذا لا تكون النفس لوحًا مصقولًا، بل تكون حاصلة على معارف غريزية أو فطرية. يعترض لوك قائلًا: لا إدراك بدون شعور، فتكون المبادئ الغريزية معارف غير معروفة، وهذا خلف. ولكن ليس من البين بذاته أنه لا إدراك بدون شعور, إن بين القوة الصرف والفعل التام حالة وسطى هي حالة الكمون تسمح لنا بالقول بأن المبادئ موجودة في النفس ولو لم يصاحبها شعور، كعروق الرخام ترسم ملامح التمثال قبل تحققه.
فإذا قلنا مع لوك:"ليس" في العقل شيء إلا وقد سبق في الحس, وجب أن نستدرك فنقول:"إلا العقل نفسه". على أن طبيعة المونادا تقضي بأن تكون جميع معارفنا باطنة، إذ ليس للمونادا نوافذ تنفذ منها صور الأشياء، وليست المونادا كالشمع تنطبع عليها صور الأشياء. إنها موجود متميز متشخص، فلا يمكن اعتبارها خالية بادئ ذي بدء، وإلا لم تتميز من غيرها، تبعًا لمبدأ اللامتمايزات. إن وجودها المتميز بجب أن يقوم في شيء باطن هو مجموع استعداداتها للفعل. فالمونادا تتدرج باطراد من إدراكات غامضة إلى إدراكات واضحة فإلى إدراكات متميزة. بهذا المعنى يصح القول بأن التجربة شرط ظهور الكامنات في النفس