للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٦٠ - الفكر والوجود:

أ- بعد هذا التحليل تأتي مسألة قيمة المعرفة: هل لمعانينا مقابل في الوجود؟ وهل توجد جواهر مقابلة للظواهر؟ يقول لوك: "من البين أن الفكر لا يدرك الأشياء مباشرة، بل بوساطة ما لديه عنها من معانٍ, فكيف يعلم الفكر أن معانيه مطابقة للأشياء؟ " "م ٤ ف ٤ ". ونقول: بل كيف يعلم أن هناك أشياء؟ هذا موقف ورثه لوك عن ديكارت، ولكنه لم يقدر المسألة حق قدرها ولم يشك قط في وجود عالم خارجي، وبعد أن وضع الحقيقة في صحة لزوم العلاقات بين المعاني بالاستدلال، عاد فجعل الحقيقة في المطابقة بين المعاني والأشياء. والمراد المعاني البسيطة؛ لأن المعاني المركبة عبارة عن نماذج يصنعها الفكر ويتأملها كما تقدم. وبعد أن نقد معنى الجوهر عاد فقال بوجود جواهر غير مدركة في أنفسها هي: النفس والله والمادة. ونقده للجوهر يرجع إلى أنه معنى مركب؛ ذلك أن الفكر يلاحظ تلازم معان بسيطة مكتسبة بحواس مختلفة، فيعتاد اعتبار هذا المجموع شيئًا واحدًا، ويطلق عليه اسمًا واحدًا كالإنسان والفرس والشجرة، ويتوهم أن هناك أصلا تقوم فيه الكيفيات؛ لأنه لا يدرك كيف يمكن لهذه المعاني البسيطة أو الكيفيات أن تقوم بأنفسها "م ٢ ف ٢٣ ". وهذا يعني أن لوك يظن القائلين بالجوهر يريدون به موضوعًا عاطلًا من الكيفيات مخفيًّا تحتها، والواقع أن الكيفيات عندهم كيفيات الموضوع وأن التمييز بينه وبينها تمييز ذهني له أصل في حقيقة الأشياء هو أن الأشياء تتقلد كيفيات مختلفة مع بقائها هي هي بالماهية. على أن لوك يعتقد بوجود الجوهر كما ذكرنا، ويقول: لو استطعنا إدراكها لأدركنا ائتلاف الكيفيات، ولكننا لا نستطيع لأن معرفتنا مقصورة على الإحساس والتفكير.

ب- فالنفس مجموع معانٍ بسيطة مدركة بالتفكير، والأنا هو هذا الشيء المفكر المدرك لأفعاله، ووجوده موضوع حدس باطن لا يتطرق إليه شك ولا يحتاج إلى دليل, وجهلنا بجوهر النفس لا يخولنا الحق في إنكار وجودها. بيد أن لوك لا يريد أن يقول: إن "الذاتية الشخصية" تقوم في ذاتية النفس أي: بقائها هي هي، ولكنه يردها إلى ذاتية الشعور بالأنا الذي يتذكر

<<  <   >  >>