كأنها تظهرنا على الأشياء كما هي في نفسها، إذ تمدنا بمبادئ ومعانٍ مطلقة لا تمتّ إلى المحسوس بسبب، بل إنها تقع في التناقض إذا أرادت تطبيقها عليه. فمثلًا: المبدأ القائل: إن المركب يفترض البسيط، اعتمد عليه ليبنتز فوصل إلى أن العالم مركب من بسائط، ولكننا لا نصل أبدًا إلى البسيط بسبب القسمة إلى ما لانهاية؛ ثم إن المعاني المنطوية في ذلك المبدأ، وهي معاني الكل والبسيط والمركب، وأيضًا المعاني التي يستخدمها ليبنتز في المونادولوجيا، وهي معاني الإمكان والوجود والضرورة والجوهر والعلة، لا تدخل كأجزاء في أي تصور حسي، وليست مستخرجة من التصور الحسي, فالمحسوس والمعقول متخارجان متغايران.
٩٦ - وضع الفلسفة النقدية:
أ- عكف كنط على النتائج التي بلغ إليها يعيد فيها النظر ويلائم بينها، وبعد عشر سنين " ١٧٨١ " أخرج كتابه الأكبر "نقد العقل الخالص النظري" يبين فيه كيف, وإلى أي حد تتطابق معاني العقل ومدركات الحس. فقرر أن المعاني لا تستفاد من الأشياء على ما يزعم الحسيون، وأن الأشياء لا تستفاد من المعاني على ما يزعم العقليون، ولكن المعاني هي الشروط الأولية المتعلقة بها المعرفة الحسية. فمعنيا المكان والزمان يطبقان على الكيفيات المحسوسة فيجعلان منها ظواهر، وليس المكان والزمان شيئين محسوسين. ومعانٍ أخرى أو مقولات اثنتا عشرة تطبق على الظواهر فتجعل منها قضايا علمية أي: معارف كلية ضرورية، وليس في التجربة كلية وضرورة. ومعان أخرى ثلاثة، هي معاني النفس والعالم والله، ليس لها في التجربة موضوع تنطبق عليه، وكل ما يدعي العقل إثباته بشأنها غلط. ففي هذا الكتاب تلقى الرسائل النظرية التي لخصناها في العدد السابق، ومحصله أن الفكر حاصل بذاته على شرائط المعرفة، وأن الأشياء تدور حوله لكي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل. وهذه هي الثورة التي أحدثها كنط في عالم الفكر، وشبهها بالثورة التي أحدثها كوبرنك في عالم الفلك. ولكي يقرب هذا المذهب إلى الأذهان ويصحح ما جرى من الأخطاء في فهمه، وضع رسالة أسماها "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تعتبر علمًا"" ١٧٨٣ ".