للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالكشف عن منشئه وطبيعته.

ب- منشأ الوهم الميتافيزيقي قوة من قوانا الفكرية وأعلاها، هي النطق؛ لذا كان هذا الوهم ملازمًا للفكر الإنساني وعسير التبديد. يختلف النطق عن الفهم في أن وظيفة الفهم الحكم، أي: الربط بين الظواهر بوساطة المقولات وتركيبها في قضايا، ووظيفة النطق الاستدلال بالأقيسة الثلاثة المعروفة: الاقتراني، والشرطي المتصل, والشرطي المنفصل. إلا أنه يستعمل هذه الوظيفة على نحوين: نحو منطقي، ونحو مفارق، أما النحو المنطقي فيقوم في إدراج حدس "المقدمة الصغرى أو المشروطة" تحت قاعدة "المقدمة الكبرى أو الشرط" بحيث يرد معرفة جزئية إلى معرفة كلية باعتبار هذه شرط تلك، وهكذا إلى غير نهاية. وأما النحو المفارق فيتجه على العكس إلى اعتبار سلسلة الشروط جملة تامة، أي: إنه يمضي في توحيد المعرفة حتى يبلغ إلى المطلق, فيدعي تقديم برهان تام عن المشروط، أو يمضي من الوجود التجريبي، لا إلى وجود يمكن أن يقع في التجربة، بل إلى وجود أخير مجاوز للتجربة بالمرة. ولكن المحقق تحليليًّا هو أن المشروط يفترض شرطًا، فالمبدأ الذي يصعد المنطق بموجبه من مشروط إلى لامشروط، هو مبدأ تركيبي يجاوز مجال المنطق الصرف، وهو أوليّ في نفس الوقت إذ إن التجربة لا تعطينا مبدأ أول. وقد مر بنا أن الحكم التركيبي الأولي لا يعد مقبولًا إلا إذا اشتمل على حدس حسي. فاستدلال النطق عبث لا غناء فيه؛ لأنه يركب أقيسة فاسدة مؤلفة من أربعة حدود، إذ تنتقل المعاني كما هي في الفكر "أي: من صور بحتة" إلى أشياء بالذات خارجة عن متناول الفكر، فيكون لكل من هذه المعاني مدلولان: الواحد صوري في المقدم، والآخر مادي في التالي.

ج- وطبيعة الوهم الميتافيزيقي أن النطق، لما كان لا يصادف المطلق في التجربة، يخترع معاني يعتبرها المبادئ القصوى. هكذا فعل أفلاطون حين ترك العالم المحسوس وتوغل فيما فوقه على أجنحة المثل في خلاء العقل الخالص, فأشبه حمامة تشق الهواء فتحس مقاومة فيخيل إليها أنها تكون أكثر توفيقًا لو طارت في خلاء مطلق. وكما أن النظر في صورة الأحكام كشف لنا عن المقولات أو معاني الفهم، كذلك النظر في صورة الاستدلالات يكشف لنا عن معاني النطق هذه. ذلك بأن القياس الاقتراني "وهو يسند محمولا إلى موضوع، أي: كيفية إلى جوهر"

<<  <   >  >>