رئيسه الموجود العاقل البريء من الحساسية الكامل الإرادة, يقرر القوانين ولا ينفعل بقوتها إلا كراهية. وهكذا تعينت الصيغة الأصلية للأمر المطلق بثلاث صيغ أخرى تتفق معنى ولا تتمايز إلا بأن الأولى خاصة بصورة الأحكام الأخلاقية "وهي القانون الكلي للطبيعة" والثانية خاصة بالمادة "وهي الموجودات العاقلة الغايات بالذات" والثالثة تعينها تمام التعيين "وهي الاستقلال بالتشريع في مملكة الغايات". وهذه الصيغ الثلاث تتدرج بالأمر المطلق حتى تقربه إلى نفوسنا.
١٠٧ - من الواجب إلى الميتافيزيقا والدين:
أ- قلنا: إن الواجب أمر مطلق صادر عن إرادة خالصة إلى إرادة منفعلة بميول حسية, فكيف يمكن أن تتطابق هذه مع تلك؟ لا بد من واسطة تصل بينهما, هذه الواسطة هي الحرية. نعم ليس الواجب ممكنًا إلا بالحرية، ووجوده يدل على وجودها، وهما معنيان متضايفان، فإنه إذا كان على الإنسان واجب، كانت له القدرة على أدائه، وكان فيه، إلى جانب العلية الظاهرية، علية معقولة مفارقة للزمان تضع القانون وتفرضه على نفسها. فالحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال، فإن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية، وهي إذن, من الوجهة الخلقية, حرة حقا. وبعبارة أخرى: إن للقوانين الواجبة نفس القيمة بالإضافة إلى موجود حر, وبالإضافة إلى موجود لا يستطيع أن يعمل إلا مع تصور حريته، وذلك هو المعنى الذي يحق لنا به إضافة إرادة حرة لكل موجود عاقل. فالحرية والقانون يؤكدان العالم المعقول، والإنسان عضو فيه من حيث خضوعه لقوانين عقلية بحتة، وهذا ظاهر في نفس كل إنسان، حتى المجرم، فإنه يقر بسموّ الفضيلة التي يخالفها، فهو بإقراره هذا يلاحظ العالم المعقول. فالقانون علة علمنا بالحرية، والحرية علة وجود القانون. والقانون يبرهن على الحرية، والحرية تفسر القانون. وفكرة العالم المعقول واسطة التركيب بين الإرادة المنفعلة بالميول وبين الإرادة المشرعة الكلية. على أن هذا العالم المعقول ليس موضوع علم أصلًا، ولكنه "وجهة نظر" يجد العقل نفسه مضطرا للارتفاع إليها لكي يتصور نفسه موجودًا خلقيًّا. فليس للعقل أن يحاول تفسير إمكان الحرية؛ فإن مثل هذه المحاولة معارضة لطبيعة العقل من حيث إن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس, وإن الشعور