للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث إن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة. فيكفي أن يستطيع العقل استبعاد المذاهب التي تعتبر الإنسان شيئًا من أشياء الطبيعة فحسب، وأن يفهم وجوب استعصاء هذه المسألة عليه لما يعلم من قصوره.

ب- بعد مسألة: ماذا يجب أن أعمل؟ تأتي مسألة: ما مصيري؟ ولكي نحل هذه المسألة ما علينا إلا أن نمضي مع العقل إلى هدفه الأسمى، وهو المطلق. لكن لا العقل النظري الذي موضوعه العلم، ولا العقل العملي الذي موضوعه الخير الخلقي، بل العقل بالذات الذي يظهر في العقلين ويجمع بينهما. ما حكمه في معنى الخير وهو المعنى الذي يتعين علينا أن نتصوره هنا على وجه الإطلاق؟ إذا اتخذنا هذا الموقف وجدنا أن معنى الخير مشترك بين الخير الخلقي والخير الطبيعي المحسوس. وإذن فليس الخير الخلقي هو الخير الأوحد أو الكامل والتام، وإن كان هو الخير الأعلى؛ بل هناك أيضا الخير الذي هو موضوع ميولنا الحسية. فالخير المطلق مركب من هذين الخيرين، وهذا التركيب نتصوره في معنى الخير الأعظم، وهذا المعنى هو المبدأ الموحد بين ميول الطبيعة والإرادة الخالصة. هو الفضيلة من جهة، والسعادة بنسبة الفضيلة من جهة أخرى. الفضيلة هي الشرط من حيث إنها خير بذاتها, بينما السعادة متوقفة عليها فهي خير من وجه فقط، ولا يبررها إلا السيرة الفاضلة, وبكلمة واحدة الفضيلة تجعلنا أهلًا لأن نكون سعداء.

ج- ما شروط تحقيق الخير الأعظم الذي يقضي به العقل؟ أو كيف نتصور اجتماع الفضيلة والسعادة؟ هذه صعوبة رأى الرواقيون والأبيقوريون أن يحلوها بوضع نسبة تحليلية بين الحدين، بحيث تكون الفضيلة شرطًا للسعادة، أو تكون السعادة شرطًا للفضيلة, ولكن هذا محال. قال الرواقيون: إن الفضيلة تتضمن السعادة، وإن الإنسان الفاضل سعيد بالفضيلة تمام السعادة. والتجربة تدحض هذه القضية، وما ذلك إلا لأن الحدين متغايران تمام التغاير: السعادة معنى حسي والفضيلة معنى عقلي؛ وهما يرجعان إلى قانونين متغايرين تمام التغاير, ترجع الفضيلة إلى القانون الخلقي أي: إلى الكلي بالذات، وتتوقف السعادة على القوانين الجزئية للطبيعة، وليست تعني الطبيعة بالخلقية، وليست تراعي الصلاح والطلاح فيما تقضي به من لذات أو آلام لبني الإنسان. وقال الأبيقوريون:

<<  <   >  >>