أ- هذا مذهب سامٍ بلا ريب، وقد طالما أثار الإعجاب. وإن القارئ لكنط في الأخلاق ليحمد له سمو روحه وشدة غيرته على الفضيلة، وهو القائل:"شيئان يملآنني إعجابًا: السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الخلقي في نفسي" ولكن المقصد شيء وتبريره شيء آخر، وقد أخفقت محاولة كنط فيما نرى لإقامة الأخلاق على أسس وطيدة، ولا بد من بيان ذلك ههنا بكلمات موجزات ليتم إلمامنا بحقيقة المذهب, فنقول: أولًا: إنه لا يمكن أن يكون الواجب صورة بحتة. أجل، إن مطابقة الفعل للواجب قد تكون خارجية فقط ويكون القصد اللذة أو المنفعة، وإن هذا يبين الفرق بين الصورة والمادة في الأخلاق، وبين الفضيلة والرذيلة. ولكن هذا يبين أيضًا أن الواجب هو عمل موضوع ما لذات الموضوع، أي: لحكم العقل بأنه هو الملائم اللائق. فمنشأ صلاح الإرادة هو توجيهها إلى الخير الحق، بحيث تكون الصيغة الحقة للواجب:"افعل الخير واجتنب الشر". وماذا يفيد المرء من مجرد القصد الحسن؟ إن الغرض من العمل تكميل النفس، والنفس جملة قوى تتطلب التحقق بالفعل الملائم. فهل تتكمل بالباطل وإن اعتقدته حقًّا؟ أو هل تتكمل بإرضاء شهوات الجسم بحجة أن التوجه إلى الله هو المقصود, وأن الجسم عديم القيمة، كما يزعم بعض المتصوفين أو بالأحرى المتصاوفين؟ وليست الرغبة في الموضوع الملائم مخالفة للواجب أو مغايرة له، ولكنها متضمنة فيه، من حيث إن الواجب هو فعله، وإن إدراكنا للخير الملائم لا بد أن يثير فينا ميلًا إليه. ولولا ذلك لما فعلنا شيئًا، ولما فهمنا أن موجودًا عاقلًا يفعل شيئًا، فيرتفع الواجب مادة وصورة.
ب- ثانيًا: إن الواجب كما يضعه كنط هو أمر مطلق بالإضافة إلى العقل، لكن لا بالإضافة إلى الإرادة. ذلك بأن الواجب يعبر عن نسبة ضرورية بين الفعل
= المبدأ الذي تقوم عليه، وهو معنى الإرادة الصالحة، وهذا موضوع القسم الأول، وفي القسم الثاني يعرف الواجب، وينقد سائر المذاهب؛ ثم يتبع في القسم الثالث المنهج التركيبي, فيبدأ بما للعقل الخالص من قوة عملية يترجم عنها معنى الحرية، وينزل إلى تعيين الواجبات بالتفصيل. أما الكتاب الثاني فمنهجه تركيبي، وهو مقسم إلى تحليل وجدل على غرار "نقد العقل النظري". في التحليل يعود كنط إلى موضوع القسم الثالث من الكتاب السابق فيفصل القول فيه، وفي الجدل يبين موقف العقل العملي من الموضوعات الميتافيزيقية ووجوب التسليم بها.