المادة بالصراع بين الثقل والمقاومة. ثم تجيء الفنون الشكلية: النحت يظهر الصورة الإنسانية في حال الحركة، أي: تحقق الإرادة في الفرد وتغلبها على العقبات التي تعترضها من جانب القوى الطبيعية تجلياتها السفلى، ولكنه يقتصر على إظهار الإنسان في عمومه. أما التصوير فيمثل الأخلاق، أي: مختلف وجهات الإنسان في مختلف الظروف، فتبرز الملامح والإشارات. والنحت والتصوير يظهراننا على المعاني بوساطة علاماتها الطبيعية. أما الشعر فيوحي بالمعاني بوساطة الألفاظ؛ وكل نوع من أنواع الشعر تعبير عن وجهة من وجهات الإنسان: الشعر الغنائي يظهر الألم الإنساني الناشئ من مغالبة الإرادة للعقبات, والشعر التراجيدي يظهر الألم الإنساني الناشئ من تعارض الطباع والأخلاق. وأخيرًا الموسيقى، وهي فن يستغني عن كل صورة مكانية ويتخذ صورة الزمان، فيشبه حياتنا الباطنة في تعاقب ظواهرها، ويعبر عن الأفعال مجردًا، أي: عن السرور بالذات أو الألم بالذات، كل منهما مجرد عن دواعيه. فليست الموسيقى صورة ظاهرة، ولكنها صورة الإرادة نفسها صاعدة ونازلة في خط منحنٍ، أي: في صورها البسيطة وصورها المركبة، فتظهرنا على تاريخها المكنون ومعاركها وآلامها.
ب- غير أن التحرر بالفن لا يتسنى إلا للعباقرة، ولا يتسنى لهم إلا غرارًا. فهناك وسيلة أخرى في متناول الجميع للتغلب على الأنانية التي تدفع بنا إليها الإرادة, هي أن نذكر وحدة البشر جميعًا، وأن نعتقد أنه يضطرب في كل منا موجود واحد بعينه، وأن الفردية والمباينة وهم خادع. هذا منشأ الفضيلة الحقة ومحبة الإنسانية. ولما كانت اللذة محو الألم، كان كل ما تستطيعه المحبة التلطيف من الألم؛ لذا تبدو المحبة في صورة الشفقة, فالشفقة الظاهرة الأخلاقية الأولية، وهي تدل على وحدة النوع الإنساني، ولا تفسر إلا بهذه الوحدة. أما الفضائل المتعارفة فما هي إلا صور للأنانية يتوخى منها الناس تحسين حالهم، بينما الشفقة ميل عن الذات إلى الغير. فلا يبلغ إلى الراحة التامة إلا الذين ينكرون "إرادة الحياة" إنكارًا باتًّا، ويستسلمون لبطش الإرادة الكلية. أولئك هم الزهاد والقديسون الذين يعتبرون الزهد محو الميل إلى بقاء الذات والنوع، لا الذين يعتبرون قهر الجسم وسيلة للسعادة في حياة مقبلة، إذ ما دام الوجود شرا فإن إرادة الوجود شر، والذي يجرب ألم الحياة ووهم الفردية يفقد كل داعٍ للعمل. ومتى علمت