والجوهر والوحدة والذاتية؛ ومعنى القوة أو العلة مدركًا إدراكًا مباشرًا لا مستنتجًا بالاستدلال؛ ومعنى الحرية متجليًا في معارضة الإرادة للنزوع. هذه المعاني يقول عنها الفلاسفة: إنها مجردات غريزية أو مركبة، الحقيقة أنها أصيلة مستمدة من صميم الوجدان, وهي شروط الفكر وأصول العلم. ولكن هذا لا يعني من جانب مين دي بيران أنه بلغ إلى ما بعد الطبيعة، فإن منهجه نفسي، ولم يكن يقصد إلى مجاوزة علم النفس، ولما فكر في المسائل الميتافيزيقية والدينية عالجها بالمنهج النفسي، فكان مؤسس علم النفس الديني.
ج- وهو لم يفكر في الدين إلا بعد تفكير في الأخلاق. كان قد أغفل ما تلقاه من الدين في حداثته، واعتقد في وقت ما أن الرواقية تتفق مع مذهبه لما تقول به من سيطرة الإرادة على نوازع الحس، ولكن التجارب علمته أنه لا يستطيع أن يجد في نفسه قوام حياته القلقة المضطربة. ومنذ ذلك الحين أخذ يطلب الله لحاجته إلى نعمة ربانية يتغلب بها على الحساسية. وقد سجل هذه التجربة في "جريدته الخاصة" ثم شرع يضع تأويلها الفلسفي في كتاب أسماه "محاولات في علم الإنسان" ولم يتمه. إنه ينتقد أدلة ديكارت على وجود الله، فيقول: إن الانتقال من النفس إلى الله بموجب مبدأ العلية يثير مسألة ممتنعة الحال هي: ما علاقة العلية بين الخالق والمخلوق؟ إذ إن هذه العلاقة تختلف بالمرة عما نعلمه من علاقات علية. ثم لا يمكن الجزم بأن فكرة الله فكرة محصلة، فقد تكون للنفس قدرة خفية على الاستكمال إلى غير نهاية، ومن ثمة على إبداع فكرة موجود كامل دون أن يوجد مثل هذا الموجود ليكون علة الفكرة التي تصوره. ثم إن الدليل الوجودي غلط من حيث إن الوجود يشاهد ولا يستنبط من فكرة، وأن لا تفاوت بين الجواهر في الوجود، ولا تفاوت فيه بين الجواهر والأعراض، ما دامت جميعًا مجرد أفكار. فلا يبقى إلا الرحوع إلى النفس، وحينئذ نرى النفس "تماس منبع كل حقيقة وكل نور، وتحس الله واللانهاية في إشراقات العبقرية الفجائية، وفي الوثبات الآتية نحو الحقائق العليا، وفي البروق اللامعة خلال السحب المخيمة على عقولنا، وفي إلهامات وعواطف مستعصية على التعبير". فيكون للإنسان حيوات ثلاث مقابلة للأنظمة الثلاثة عند بسكال: حياة حيوانية خاصيتها إحساس وتخيل، أي: مجرد انفعال؛ وحياة إنسانية هي الإدراك مع الفعل أو الجهد؛