لا يمكن أن يكون هذا الأصل حسبان الفرد للربح الذي يعود عليه من العيش مع أمثاله، إذ إن الربح لا يبين إلا إذا حصل الاجتماع ومضى عليه وقت كافٍ. إنما الدافع إلى الحياة المشتركة غريزة مستقلة عن حساب الفرد، ونحن نرى العاطفة تسبق المعرفة في كل ميدان. على أن الأنانية أقوى في الأصل من هذه الغريزة الغيرية، ثم تخضع لها بنمو العقل والتعاطف، وإنما ينمو العقل والتعاطف بالحياة الاجتماعية. وإن الفلسفة الواقعية لتعاون على ذلك بتقريرها أن نمونا كله يتحقق في المجتمع وبوساطته. وحالما يوسع المرء عاطفته حتى تستوعب النوع الإنساني أجمع، يحصل على رضا حاجته للخلود بأن يعتبر بقاء النوع امتدادًا لحياته الخاصة. ومتى وجد المجتمع كان وحدة مؤلفة من أجزاء متفاعلة حتى إن أحدها لا يتغير إلا وتتغير أجزاء أخرى. أجزاء المجتمع أو شروط وجوده طائفتان: مؤسسات ووظائف، أي: شروط موضوعية وشروط ذاتية. ذلك أنه لما كان المجتمع لا يصير ممكنًا إلا بتغلب الغيرية، فقد مست الحاجة إلى ثلاث مؤسسات لتحقيق هذه الغلبة: فأولا ومن حيث الحياة المادية نجد الملكية شرطًا أساسيًّا، إذ إن المالك ينتج أكثر مما يستهلك فيدخر الفرق لفائدة الغير؛ وثانيًا ومن حيث الحياة الأخلاقية نجد الأسرة وهي الوحدة الاجتماعية وأوثق الجماعات حتى إن تسميتها اتحادًا أصح من تسميتها اجتماعًا، فيها تظهر البذور الأولى للاستعدادات التي تعين المجتمع، وفيها يتعلم الفرد أن يجاوز نفسه ويسود التعاطف على الغرائز الشخصية. فهي ضرورية كتمهيد بين الفرد والمجتمع من وجهين: أحدهما أنها تلائم ملاءمة طبيعية بين الطباع والأخلاق المختلفة الناشئة من استعدادات مختلفة, فإن الاجتماع يقتضي تنوع الأفراد واتفاقهم في آن واحد؛ والوجه الآخر هو أن الأسرة هي المدرسة التي تولد فيها العواطف الاجتماعية متمثلة في التضامن الذي يبدو في تعاون الوالدين على تربية البنين، وفي الطاعة تبدو في انصياع البنين لأوامر الوالدين الرامية إلى قمع الأنانية، وفي الاقتصاد يبدو في تدبير التراث العائلي احتياطًا للمستقبل. وثالثًا ومن حيث الحياة العقلية نجد اللغة وسيلة الاتصال بين الأفراد، فيشتركون في الأفكار والعواطف, ويؤلفون رأس مال عقلي كما تجمع الملكية رأس مال مادي. ومما تجب ملاحظته أن الصلة وثيقة بين الأفكار والأخلاق من جهة وبينها وبين المؤسسات من جهة أخرى، بحيث لا يسع أية