أ- خطا كونت خطوة أوسع فبلغ إلى الدين, إنه ينعت دينه بالواقعي. والحقيقة أن هذا الدين يكاد يكون كله ثمرة العاطفة والخيال في تكوينه والإحساس به. كان فيلسوفنا قد وضع العقل في المحل الأول يستكشف قوانين الوجود ويؤثر في العاطفة, فيحدث أخلاقا ومؤسسات اجتماعية؛ وها هو ذا الآن يرى أن قيمة العقل تنحصر في نتائجه العملية، وأن هذه النتائج تتوقف على الظروف الخارجية في حين أن العاطفة توفر لنا رضًا باطنًا مباشرًا، فيقدم العاطفة إلى المحل الأول ويطلب إليها إنارة العقل فينتهي إلى مثل الحالة اللاهوتية التي اعتبرها طفولة النوع الإنساني؛ حتى إنه يتبع في ذلك منهجًا يخالف المنهج العلمي, فينقطع عن كل جديد في العلم والأدب ويتوفر على الموسيقى والشعر الإيطالي والأسباني، ويطالع كتاب "التشبه بالمسيح" فيستبدل الإنسانية بالله في كل موضع منه ويستعين به على تعمق فكرة الإنسانية والإخلاص لها على مثال الصوفيين، ويلزم من ذلك تقدم الفن على العلم من حيث إن مصدر الفن العاطفة, وإن الفن يصور مثلًا عليا تهذب أفكارنا وغرائزنا. وقد حدا هذا الموقف ببعض تلاميذه الأقربين إلى اعتزاله وعده خارجًا على الفلسفة الواقعية الخالصة. بيد أن من الحق أن نذكر أن علم الاجتماع الساكن قد عد الدين أحد الأوضاع الملازمة للمجتمع، وأنه كان من المتعين على كونت الاحتفاظ به مع الملاءمة بينه وبين المذهب الواقعي، فلا يمكن أن يقال: إن الدين خاطر طارئ على فكره أثارته الأزمة العصبية الثانية.
ولسنا ندري على أية صورة كان يجيء الدين المتسق مع العقل الواقعي. أما الصورة التي رسمها كونت فنجملها فيما يلي:
ب- الدين خاصية النوع الإنساني, وتعريفه أنه المبدأ الأكبر الموحد لجميع قوى الفرد ولجميع الأفراد فيما بينهم، وذلك بنصب غاية واحدة لجميع الأفعال. وقد سبق القول: إن معنى الإنسانية أرفع المعاني من الوجهة الذاتية، وإنه هو الذي يكفل وحدة المعرفة, إذ تحصل هذه الوحدة بالنظر إلى العالم من حيث علاقاته بالإنسانية. وهذا المعنى واقعي ينطق به التاريخ، فليس يوجد الفرد إلا بفضل الماضي، وليس يستمد أسباب الحياة المادية والعقلية والخلقية إلا من الإنسانية،