بحيث نستطيع أن نقول: إن الأموات أحياء أكثر من الأحياء أنفسهم. فديانة الإنسانية عبادة الإنسانية باعتبارها "الموجود الأعظم" الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة المساهمة في تقدم بني الإنسان وسعادتهم. والعبادة مشتركة وفردية: تقوم المشتركة في أعياد تذكارية تكريمًا للمحسنين إلى الإنسانية، فيملؤها السرور وعرفان الجميل. وقد وضع كونت "تقويمًا واقعيًّا" دل فيه على كل يوم وكل شهر بأسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدم الإنسانية. وفي العبادة الفردية يتخذ الأشخاص الأعزاء على الفرد نماذج للمثل الأعلى. ولما كانت كرامة الفرد تقوم في كونه جزءًا من "الموجود الأعظم" كان واجبه أن يوجه جميع أفكاره وأفعاله إلى صيانة هذا الموجود وإبلاغه حد الكمال، وهكذا تنطوي الغيرية على الواجب الأعظم, وعلى السعادة العظمى جميعًا.
ج- ويعهد بتدبير العبادة التربية إلى هيئة إكليريكية, أعضاؤها فلاسفة شعراء أطباء معًا، مهمتهم استكشاف ما يكفل خير "الموجود الأعظم" وتحقيق ما حققته الكنيسة في العصر الوسيط, أو أرادت تحقيقه من أفكار جليلة عميقة. ولما كانت "الواقعية" قد تحررت من الأوهام القديمة فلا بأس عليها أن تعود إلى التصور الفيتشي للطبيعة فتضيف إلى الأشياء نفسًا وحياة؛ وهذه الإضافة مصدر قوة للغة والفن وكل ما من شأنه أن يفيد في بقاء "الموجود الأعظم" ونمائه، وتعتبر السماء أو الهواء "الوسط الأعظم" الذي تكونت فيه الأرض التي هي "الفيتش الأعظم" فيؤلفان مع "الوجود الأعظم" الثالوث الواقعي. وبعد الفلاسفة الذين هم بمثابة الدماغ من الجسم، يأتي النساء وهن بمثابة أعضاء العاطفة، وواجبهن إثارة عواطف الحنان والغيرية الكفيلة باستكمال "الموجود الأعظم". وبعدهن يجيء رجال الصناعة والمال وهم بمثابة أعضاء التغذية. وأخيرًا: يجيء العمال وهم بمثابة أعضاء الحركة.
د- تلك هي ديانة الإنسانية مسخ بها كونت الديانة المسيحية، ونصب نفسه كاهنها الأكبر، ووضع لها شعارًا: المحبة كمبدأ، والنظام كأساس، والتقدم كغاية. فكان له بعض الأشياع في فرنسا وإنجلترا والسويد وأمريكا الشمالية والجنوبية، تبعوا في كل بلد كاهنًا أكبر وأقاموا معابد. ولا نظننا بحاجة إلى التنبيه على غرابتها وتهافتها، ولا على ضعف النظرية الأساسية في المذهب وهي