نظرية الحالات الثلاث. فقد أقر كونت أن الرياضيات وجدت واقعية أول ما وجدت، وقليل من التفكير يدلنا على أن الإنسان ما كان بقي على سطح الأرض لو لم يتعرف خصائص الأشياء منذ أول أمره فيفيد من النافع, ويحتاط للضار ويصطنع الأسلحة والآلات. فالحالات الثلاث أولى بها أن تكون متعاصرة متلازمة مع تفاوت فيما بينها في كل عصر وكل فرد؛ وأن يكون لكل منها قيمة. ولكن كونت اقتنع بنسبية المعرفة ورأى أن يبررها بهذه النظرية، وبهره العلم التجريبي فحصر فيه كل الحقيقة وجاءت فلسفته الواقعية هي الفلسفة المادية بالرغم من تحفظه, إذ إنها تؤدي إلى النتيجة نفسها وهي إنكار الميتافيزيقا. ونحن نقصر فضل كونت على طائفة كبيرة من الأفكار الجزئية العميقة في العلوم والاجتماع.
١٤٧ - جوزيف برودون " ١٨٠٩ - ١٨٦٥ ":
أ- نختتم هذا الفصل بذكر اثنين من الاشتراكيين أرادا أن ينظما المجتمع تنظيمًا واقعيًّا. أولهما برودون كان عامل طباعة ولكنه تثقف بالقراءة الكثيرة، ثم كتب، فجاءت كتاباته مزيجًا يعوزه الوضوح والانسجام من ملخصات قراءاته ومن آراء خاصة. أهم كتبه "ما الملكية؟ "" ١٨٤٠ " و"خلق النظام في الإنسانية"" ١٨٤٣ " و"المتناقضات الاقتصادية"" ١٨٤٦ " و"العدالة في الثورة الفرنسية وفي الكنيسة"" ١٨٥٨ " و"الحرب والسلم"" ١٨٦١ ". وهو ينتقد فيها على السواء مذهب الحرية والمذهب الشيوعي؛ يقول: إن الحرب ضرب من حكم الله ويشيد بالسلم؛ يحمل على الاستبداد ولا يؤمن بالاقتراع العام.
ب- مذهبه الخاص قائم على فكرة العدالة. وهو يعرفها بأنها "حقيقة كلية تتجلى في الطبيعة بقانون التوازن، وفي المجتمع بتبادل أساسه تساوي الأشخاص". ومن فكرة العدالة هذه يستنبط نظاما اقتصاديا يسميه "التعاون" أو "التبادل" ويرجو تحقيقه حين يصل العمال إلى السلطة بفضل الاقتراع العام, فيديرون المشروعات والمصارف وغيرها من المؤسسات الاجتماعية بحيث يجعلون لكل عمل مكافأة من جنسه أي: على قدره؛ فإن الواجب على كل إنسان أن يعمل لكي يعيش ويحق له أن يقتني ملكًا بنتاج عمله، والملكية سبب من أسباب الحرية، ولكن كل ثروة أو كل ملكية تجيء من غير طريق العمل هي سرقة، كالفائدة