واللاحق المطرد معلولًا، وبموجب قانون التداعي تميل المخيلة إلى استعادة الظواهر على النسق الذي تعاقبت عليه؛ وهذا أصل الاعتقاد بقوانين علمية ومبادئ كلية ضرورية، بما في ذلك مبادئ الرياضيات وقضاياها، بالرغم مما قال هيوم، فإنها عادات أو روابط غير منفصمة، بل بما في ذلك مبدأ الذاتية فما هو إلا تعميم للتجربة, قائم على هذه الظاهرة وهي "أن الاعتقاد وعدم الاعتقاد حالتان عقليتان متنافيتان". فالقضايا الكلية الضرورية وليدة التجربة الجزئية, ومن يدرينا؟ لعل في الكون مناطق توجد فيها معلولات بدون علل، وتكون فيها ٢ + ٢ مساوية لخمسة؛ وهذا في الحق منطق المذهب الحسي، أي: إلغاء العقل والمنطق والعلم على اختلاف أنواعه.
وغير أن مل وكان يعلم أن ليس كل تعاقب مطرد يعتبر قانونًا، وأن العلم يقصد بالعلة شيئًا آخر غير السابق المطرد، فاعترف بأن العلة هي "السابق الضروري" دون أن يبين سبب الضرورة، ووضع مناهج كمناهج فرنسيس بيكون لتمييز العلة من مجرد التعاقب والتلازم وتعيين الاستقراء الصحيح. هذه المناهج مشروحة في كتب المنطق، فنقتصر على ذكرها، وهي: منهج الاتفاق أو التلازم في الوقوع، ومنهج الاختلاف أو التلازم في التخلف، ومنهج التغير النسبي أي: تغير المعلول بنسبة تغير العلة، وأخيرًا منهج البواقي يطبق على معلول مركب يقع بعد جملة ظواهر، ومثاله إذا كنت أعلم باستقراءات سابقة أن بعض هذه الظواهر علة لأجزاء من المعلول، كانت الظواهر الباقية علة الأجزاء الباقية. وهكذا يسلم مل راغمًا بأن العلة مغايرة للسابق العرضي ولو كان مطردًا، فإنها سابق ضروري أي: سابق فاعلي، إذ لو لم تكن هناك فاعلية لما كانت هناك ضرورة أو نسبة ضرورية.
١٦٠ - الأخلاق:
أ- هنا أيضًا يصطنع مل المذهب الحسي ثم يخالفه وهو لا يدري، كما يبين خصوصًا في كتاب "النفعية"؛ يبدأ بأن يقول: إنه لم يكن للإنسان في الأصل من سبب للعمل سوى المنفعة أي: توخي اللذة، وبخاصة تفادي الألم، ثم عمل ترابط الأفكار عمله فصارت الأفعال التي كانت وسيلة الخير تعتبر خيرة في ذاتها كما