يعتبر البخيل المال غاية وخيرًا وهو وسيلة إلى الخير. هذا هو المذهب الحسي المتعارف, غير أن مل يستدرك فيقول: ليست اللذة راجعة كلها إلى اللذة الجسمية وكميتها كما اعتقد بنتام، وإنما هناك لذات تابعة للكيفية أي: لاعتبارات معنوية، فمما لا شك فيه أن وظائفنا متفاوتة رتبة وقيمة، وأن حياة الوظائف العليا أشرف من حياة الوظائف الدنيا؛ يدل على ذلك أن ما من إنسان يرضى أن يستحيل حيوانًا أعجم، اللهم إلا أفرادًا جد قليلين؛ إن الإنسان البائس لخير من خنزير شبعان، وإن سقراط معذبًا لخير من جاهل راضٍ. هذا ما يراه الإنسان المهذب ويؤثره لنفسه, وهو كذلك يؤثر المنفعة العامة على منفعته الخاصة، إذ إن النفعية تقتضي الفاعل الحكيم أن يعمل للآخرين كما يحب أن يعملوا له، وهذا الإيثار شرط الحياة الاجتماعية التي هي شرط المنفعة الشخصية.
ب- هكذا يصحح مل مذهب المنفعة في نقطتين: الأولى أنه يجب اعتبار الكيفية في اللذة لا الكمية فحسب؛ والثانية أنه يجب إخضاع المنفعة الذاتية للمنفعة الكلية, ولكنه يخرج على مذهبه الحسي في كلتا النقطتين؛ أما في الأولى فلأن المذهب الحسي لا يعترف بالكيفية، فلا يعترف بقيم موضوعية للموجودات والوظائف، ولا بمغايرة الوظائف العليا للوظائف الدنيا بالماهية والطبيعية، وإنما الطائفتان عنده من نوع واحد، والاختيار بين اللذات متروك لتقدير المنفعة الحسية ليس غير. والمذهب الحسي يفسر الفضيلة بأنها اتخاذ الوسيلة غاية أي: العمل لا لغاية وصرف النظر عن المنفعة, فيجعل من الفضيلة عملًا غير معقول؛ فيجيء مل ويوحد بين الكيفية العليا والمنفعة العامة والفضيلة, فيجعل من الفضيلة عملا معقولا مرادا لذاته مع مغايرته للمنفعة الحسية. وأما في النقطة الثانية فلأن النفع الذاتي هو الأصل والمعيار في المذهب الحسي، فكيف نطالب بإخضاعه للنفع العام؟ ومهما يقل: إن هذا شرط ذاك فكثيرًا ما يتعارضان، فباسم أي مبدأ يفرض على الفرد اختيار منفعة المجموع دون منفعته هو؟ التناقض بادٍ للعيان هنا وفي كل مسألة، وهو تناقض المذهب الحسي مع الحقيقة الشاملة، وستوارت مل ملوم لإصراره على هذا المذهب بعد أن لمس نقصه في نواح كثيرة, ولكنه استنشقه في بيته وبيئته، ولم يوفق إلى فهم المذهب العقلي على حقيقته، فكان ما كان من الخبط الذي رأينا أمثلة منه.