للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تحت الأعراض المتغيرة. هذا العنصر الفكري الأخير هو إذن بطبيعته غير معين وغير قابل للرفع، بحيث إن قوانين الفكر التي تحظر علينا تكوين تصور عن موجود مطلق، تحظر علينا أيضًا استبعاد تصوره. بل إننا نستطيع أن نتصوره بالمماثلة مع ما نشعر به أنه قوتنا الذاتية في الجهد العضلي، وذلك بأن نمحو شيئًا فشيئًا الحدود التي تبدو فيها القوة المجهولة في كل حالة جزئية, دون أن نصل إلى تكوين معنى محصل عنها. المادة والحركة مظهران لها، والزمان والمكان صورتان لمظاهرهما.

د- إذا تقرر هذا لزم منه أن للدين مكانًا إلى جانب العلم. وإنما كان التعارض بينهما لأن الدين على اختلاف صوره، يدعي تعيين ماهية العلة المطلقة ويريد أن يحل مسائل لا تحل إلا بالعلم، وأن العلم يريد أن ينفذ إلى ميدان هو ميدان خاص بالدين. فما إن تعين حدود المعرفة كما ينبغي حتى يتفق العلم بالدين على أن ماهية الوجود مجهولة غير مدركة، وينحصر كل في دائرته وينتهي النزاع بينهما. إن للعاطفة الدينية أصلًا عميقًا في الإنسان, فهي من ثمة مشروعة. إنها عاطفة الاحترام بل الحب الذي تحسه النفس نحو ما يعلو عليها. وليس لها أن تخشى شيئا من النقد المنطقي مهما اشتدّ، فإن القوة التي ينم عنها العالم تفوق إدراكنا. ذلك هو الدين الذي يعترف به العلم، لا دين الإنسانية الذي ابتدعه أوجست كونت وزعم له صفة الواقعية, وأقامه على عبادة الطبيعة المنظورة وعظماء الرجال. وما سائر الأديان المعروفة عن الشعوب المتوحشة والمتحضرة إلا ترجمات مختلفة عن القوة العظمى التي هي علة الظواهر الطبيعية, والتي كان الإنسان البدائي يحس شيئًا منها في فعله الإرادي.

هـ- واضح أن هذا المذهب ملفق من رقعتين؛ فإن سبنسر ينتمي إلى المدرسة الحسية فيقول: إن المعرفة قائمة بأكملها على التجربة، ثم يصطنع نظرية في المطلق المجهول لكي يدع الباب مفتوحًا للدين والأخلاق. وهذه النظرية مأخوذة كلها عن سبينوزا وكنط وهاملتون ومنسل، وقد رددنا بما فيه الكفاية على ما تتضمن من قول بالنسبية ومن دعوى تناقض الميتافيزيقا. فلا نعد سبنسر هنا إلا مقلدًا ومنسقًا لعناصر معروفة في تاريخ الفلسفة، دون أن يتمكن من إقامة الدليل على أن فكرة المطلق تعبر عن وجود مفارق للطبيعة ضامن للدين والأخلاق، لا عن

<<  <   >  >>