للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الخطرة". ولما كانت غايته الفوز فإنه يأبى كل شفقة على المساكين؛ ولما كان يلخص الإنسانية في شخصه فإنه يسودها وهو مطمئن الضمير، ويجد في الفوز غبطته العظمى، وأخيرًا يثبت مصيره إلى الأبد بقبوله أن يعود فيحيا حياة البطولة هذه إلى غير نهاية, وفقًا لنظرية الدور السرمدي ١.

ز- فلسفته هذه صورة نفسه القلقة وثقافته الرومانتية وتجربته المؤلمة. وهو يعرضها على أنها رسالة ووحي، ولا يقصد إلى إقناعنا بل إلى تعليمنا كيف نستكشف أنفسنا فنجد فيها إرادة القوة. وإذا أردنا أن نلخصها قلنا: إنها صيحة بالإنسان أن "كن ما أنت دون ضعف وإلى النهاية". وهذا ما دفعه إلى نقد شوبنهور نقدًا لاذعًا وإلى فصم صلته بفاجنر حين أدرك اختلافه معهما في معنى الحياة والغاية منها، والشبه كبير بين هذه النظرية وبين النظرية السوفسطائية التي يعرضها أفلاطون في محاورة "غورغياس" مع هذا الفارق, وهو أن "الإنسان الأعلى" يحل محل "الطاغية" وأن الحيوية النفسية تحل محل الشهوة البدنية. ولو أن نيتشي أنعم النظر في هذه المحاورة الخالدة لرأى بأي قوة يعرض أفلاطون هذه النظرية, وبأي قوة يفندها, وبأي قوة يجلو مبادئ الأخلاق ٢. ليست القوة بذاتها غاية وليس لها بذاتها قيمة، ولكن قيمتها ترجع إلى قيمة الموضوع أو الغرض الذي تخدمه، فإذا كان هذا الموضوع هو اللائق بالإنسان بما هو إنسان, كانت القوة المبذولة في سبيله خيرة ممدوحة،


١ هذه النظرية معروفة في الثقافة اليونانية, ونتيجتها استبعاد كل أمل في نعيم مقيم، أرضيا كان أو سماويا، واعتبار الإنسان شبحا ضيئلا في طبيعة عمياء. وكان شوبنهور يرى في العودة الدائمة وتجدد الألم إلى غير نهاية سببًا للتشاؤم والزهد؛ وكان نيتشي قد فزع من هذه الفكرة في أول الأمر وحياته مفعمة بالآلام، ثم حسبها قانونا طبيعيا واعتزم تأييدها بدراسات علمية، ولكنه لم يستطع تحقيق هذا العزم واكتفى بأن اعتنقها على أنها الفكرة الوحيدة الخليقة بأن تقابل إرادة الحياة في الإنسان الأعلى، والتي تمثل أقصى حد يقترب فيه عالم الصيرورة من عالم الدوام من حيث إن الآن الذي يتحدد إلى ما لا نهاية لا يعتبر لحظة عابرة بل يكتسب قيمة غير متناهية. وإذا كانت هذه النظرية تحرمنا كل أمل فقد كان نيتشي يرى أنها تملؤنا شرفًا وحماسة، فكان يفرضها على نفسه كما يفرض الزاهد على نفسه الحرمان والموت، ولكنها في الواقع معارضة لفكرة الإنسان الأعلى إذ إنها تعني تكرار الحياة كما هي، على حين أن فكرة الإنسان الأعلى ترمز إلى تقدم حقيقي, وإلى إمكان التحرر من الاتفاق والقدر، فتجعل الحياة مستحبة والنجاة ممكنة، على أنه قد لا ينبغي أن نطلب من أديب مثل نيتشي كثيرًا من الدقة المنطقية.
٢ لخصنا المحاورة في "تاريخ الفلسفة اليونانية" ص ٩٣ - ٩٥ من الطبعة الثانية, القاهرة ١٩٤٦.

<<  <   >  >>