للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالحقائق المقبولة الآن عند عامة العقول كانت في البداية مخترعات لاستخدام التجربة، ثم تأصلت في العقل بمر الزمن، وهي على كل حال "بطاقات" لا تدل على شيء في الواقع، وإنما تنحصر قيمتها في إنتاجها. قال كنط: إن الحقيقة تابعة لتركيب العقل، ويضيف المذهب العملي إلى هذا القول "أو هو على الأقل يتضمن" أن تركيب العقل نتيجة إقدام بعض العقول الفردية, أي: العقول التي اخترعت المعاني والمبادئ. والمذهب العملي أوسع نطاقًا من المذهب الواقعي، فإنه يمتد إلى كل حقيقة, حتى إلى ما يسمونه حقيقة مطلقة، فيستوعب العلم والميتافيزيقا من حيث هما موضوع عمل "برجسون في الموضع المذكور".

ووالبراجماتزم من حيث هو منهج, يحسم المناظرات الفلسفية التي لم يفد فيها للآن الجدل النظري ولا يرجى أن تحسم بغير هذا المنهج، فالجدل ما يزال قائمًا في هل العالم وحدة أم كثرة؟ وهل هو يخضع للجبر أم يتسع للحرية؟ وهل هو مادي أم روحي؟ إلى غير ذلك من المسائل. والمنهج العملي يؤول كل واحدة منها بحسب ما يترتب عليها من نتائج في العمل ومن فرق في حياة الإنسان, أما إذا لم ينتج فرق عملي فيحكم بأن القضيتين المتقابلتين ترجعان إلى واحد وأن الجدل فيهما عبث إذ لو كان بينهما فرق لنشأ عنه فرق في الحياة، فالمنهج العملي اتجاه أو موقف مؤداه تحويل النظر عن الأوليات والمبادئ إلى الغايات والنتائج. خذ مثلا المادية والروحية فإننا لا نرى فرقًا بينهما من جهة الماضي، إذ إن المؤمن يبين أن الله خلق العالم، ويبين المادي أن العالم تكون بفعل القوى الطبيعية؛ ولما كان العالم قائمًا ولا يمكن استعادة التجربة التي أحدثته للتحقق منها أكانت خلقًا أم تكوينًا طبيعيًّا، كانت المسألة ممتنعة الحل؛ ولما كانت الحجج تتعادل قوة فنحن نحكم بأن لا فرق بين النظريتين. أما إذا نظرنا إلى العالم من جهة أن له مستقبلًا وأنه لم يتم بعد، فإن الاختيار بين المادية والروحية ينقلب أمرًا غاية في الخطورة؛ ذلك بأن منافعنا ليست فقط حسية، ولكن لنا منافع عليا ترجع إلى حاجتنا العميقة لنظام خلقي دائم، والنهاية التي يتنبأ العلم بأن الأشياء ستبلغ إليها بعد تطورها الآلي هي فناء القوة وهي العدم، وليس للمادية غير هذه النتيجة, فنحن نأخذ عليها أنها لا تكفل لنا منافعنا العليا، على حين أن لفكرة الله أفضلية

<<  <   >  >>