قوة موجدة ومعنى السلطة وهما معنيان اجتماعيان، ومعنى الكلي يتضمن مجموع الموجودات أو المجتمع؛ ومعنى الواجب يتضمن ما لسلطة الجماعة من قوة إكراهية. وهكذا يزعم دوركيم، كما زعم سبنسر، أنه يفض الخلاف الناشب بين الحسيين والعقليين بقوله: إن المعاني والمبادئ مصنوعة من المجتمع, غريزية في الأفراد.
د- وهو يفسر الأخلاق والدين على النحو ذاته سواء من جهة الصورة, أومن جهة المادة: فمن الوجهة الصورية نحن نعتبر الفعل خلقيا متى كان مطابقًا لقانون مفروض، وكان غيريًّا لا أنانيًّا، وكان إراديًّا. وهذه الخصائص ترجع إلى المجتمع, فإن الخاصية الأولى نتيجة النظام الذي تفرضه حتمًا كل جماعة، والخاصية الثانية نتيجة الإخلاص للجماعة الذي تفرضه الحياة فيها، والخاصية الثالثة نتيجة ما يلحظه الفرد من أن استفادته من الحياة الاجتماعية تتوقف على إرادته هذه الحياة وشروطها. ومن الوجهة المادية نرى الأخلاق مختلفة باختلاف الزمان والمكان وسائر الظروف, أي: نراها تابعة لأحوال المجتمعات التي تخترعها وتفرضها على الأعضاء، فإن لكل مجتمع أخلاقه هي مظهر أحواله، ولا محل لتسويغ الأخلاق بتركيب فلسفة أخلاقية. وأما الدين فقديم كالاجتماع, كان صورته الأولى وتطورا معا. بدأ الدين بأن تصور الناس قوة لاشخصية متفرقة في الأشياء تمنحها ما لها من قوة، ثم تشخصت هذه القوة في الطوطم أولًا وفي الإله الواحد أخيرًا؛ فكانت لنا فكرة الله كموجود شخصي مقدس. فإن هذه الفكرة ليست مستفادة مما نشعر به من قوة باطنة, ولا مكتسبة بالاستدلال، ولكنها اجتماعية. والدين أقوى مظاهر الحياة الاجتماعية وأعمها؛ إليه ترجع الصور التي انتظمت بها المعارف الإنسانية، إذ إنه الينبوع الذي تفيض منه القوة الجسمية والقوة المعنوية في أفعال الحياة المشتركة.
هـ- هذا الموقف يستهدف لنفس الانتقادات التي نوجهها إلى سائر المذاهب التجريبية. إن المشابهات التي توحي بالمعاني الكلية متحققة في الجماد وفي النبات وفي الحيوان وفي حياتنا الاجتماعية, فلا يمكن أن يقال: إن الحياة الاجتماعية مصدرها الوحي, ثم إذا كانت الحياة الاجتماعية قد انتظمت على أنحاء كلية فلا يخلو إما أن يكون ذلك بناء على معان سابقة في أذهان بني الإنسان, أو بناء على مشابهات وجدوها بينهم، وفي كلا الحالين تكون المعاني راجعة إلى غير الحياة الاجتماعية.