أن الضمير شيء مطلق وأنه يمكن تبرير أوامره تبريرًا منطقيًّا، مع أن علم الاجتماع يقيم الدليل على أن الضمير نتاج الأيام وأن معانيه ومبادئه وليدة تجارب وعادات تختلف نشأة وقدما اختلافا شديدا جدا. أما علم الأخلاق فإنه يدرس الأفعال الإنسانية وقوانينها كما تقع عليها الملاحظة المباشرة ويوردها التاريخ، وينتهي إلى أن الأخلاق مظهر للجماعة تابع لماضيها وديانتها وعلومها وفنونها وعلاقاتها بالجماعات المجاورة وحالتها الاقتصادية. وإذن فالأخلاق تختلف باختلاف الجماعات وأحوالها والأخلاق جميعًا طبيعية، سواء في ذلك أخلاق الأقوام المنحطة وأخلاق الأمم المتمدينة. ولما كانت الجامعة لا تستقر على حال واحدة، فيلزم أن أخلاقها متطورة حتما بتطور العوامل الاجتماعية. وفائدة علم الأخلاق أنه يسمح لنا بتكوين "فن خلقي" أي: جملة من القواعد نعالج بها أحوالنا، دون أن يكون لهذه القواعد صفة الإلزام، ودون أن يكون لأفعالنا قيمة ذاتية يعبر عنها بالخير أو بالشر.
ج- وفي كتبه الأخرى يذهب إلى أن المتوحشين لا يفكرون بمعانٍ محدودة يتضمن بعضها بعضًا أو يناقض بعضها بعضًا، ولكنهم يفكرون صورة خيالية ولا يراعون مبدأ عدم التناقض، وأن هذا لون من التفكير سابق على تفكيرنا المنطقي, فتفكيرنا المنطقي صناعي؛ وأن التفكير البدائي هو التفسير الوحيد للاعتقاد بما فوق الطبيعة، ذلك الاعتقاد بأن الأشياء حاصلة على قوى خفية تستطيع إحداث السعادة أو الشقاء، وما يلزم عنه من تكريم تلك القوى واحترام التقاليد والخوف الديني أن يضطرب نظام المجتمع إذا أهملت الجماعة عباداتها وتقاليدها.
د- ولم يكن ليفي برول مبتكرًا في أقواله هذه، فإنها أقوال الحسيين من عهد بعيد أيدها بشواهد مستمدة من مذكرات المبشرين والسياح وهو جالس إلى مكتبه. لسنا بحاجة إلى الرد على نقده لفلسفة الأخلاق وقد طالما رددنا على مثله في سياق هذا الكتاب. أما رأيه في تفكير المتوحشين فقد خالفه فيه بعض الاجتماعيين، ورد عليه برجسون في كتابه "ينبوعا الأخلاق والدين" ص ١٥٩ - ١٦٩ من الطبعة الأولى، وانتهى هو إلى الإقرار بأن هذا التفكير يفسر بالجهل والغرض والتسرع وما إلى ذلك من أسباب الخطأ المعروفة، وأن المتوحشين لا يجهلون المبادئ الأولية ولكنهم يسيئون تطبيقها كما يسيء تطبيقها أطفالنا والجهلاء منا.