المذاهب عرضًا وافيًا, فإذا بها ترجع إلى مذهبين: أحدهما أن النظرية العلمية تفسير حقيقي للظواهر، كالمذهب الآلي عند قدماء فلاسفة اليونان وعند ديكارت، وهذا يجعلها ميتافيزيقية أو يربطها بنظرية ميتافيزيقية؛ والآخر أنها مجرد تصور للظواهر وقوانينها لا يدعي النفاذ إلى جواهر الأشياء، وهذا يجعلها افتراضًا ليس غير، كالنظريات الفلكية التي نبتت في مدرسة أفلاطون وسائر النظريات الطبيعية الرياضية التي تتالت بعد ذلك. والكتاب مرجع جليل في تاريخ العلوم ومنها العلم الإسلامي, وقد وقف عليه المؤلف من الترجمات اللاتينية في العصر الوسيط.
٢١٢ - هنري برجسون " ١٨٥٩ - ١٩٤١ ":
أ- ولد في باريس من أسرة يهودية قدمت فرنسا من إنجلترا. وكان في المدرسة الثانوية تلميذًا نابهًا أظهر استعدادًا نادرًا للعلوم، ولكنه اختار الفلسفة. وتخرج في مدرسة المعلمين العليا على أساتذة معروفين، منهم إميل برترو، ونجح في مسابقة الأجريجاسيون " ١٨٨١ " فعين مدرسا للفلسفة في مدارس ثانوية بالأقاليم, ثم بباريس " ١٨٨٩ " حيث ذاع صيته بعد حصوله على الدكتوراه، فعين أستاذا في الكوليج دي فرانس " ١٩٠١ " حيث قضى خمس عشرة سنة يلقي المحاضرات أمام جمهور عديد معجب أشد الإعجاب. ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى أرسل بمهمة إلى أمريكا، ولما كونت جمعية الأمم لجنة للتعاون الفكري مؤلفة من اثني عشر عضوًا انتخب هو رئيسًا وظل يشغل منصبه هذا إلى سنة ١٩٢٥.
ب- بدأ بأن كان ماديا على مذهب سبنسر، ولكن التفكير في الحياة النفسية قاده إلى إنكار قول الماديين: إنها مؤلفة من ظواهر منفصلة تتصل بموجب قوانين التداعي، وإن هذه الظواهر من قبيل الظواهر الخارجية قابلة للقياس والحساب وجاءت رسالته للدكتوراه "محاولة في الوقائع المباشرة للوجدان"" ١٨٨٩ " معلنة لهذا الإنكار بقوة وبراعة لفتتا إليه الأنظار، فتنفس الكثيرون الصعداء من أولئك المثقفين الذين كانوا يرزحون تحت كابوس الآلية والجبرية، ومنذ ذلك اليوم كان هو زعيمًا من زعماء الروحية ١. ثم شرع يتعمق خصائص الروح والعلاقة بينها وبين
١ رسالته الثانية محررة باللاتينية, وعنوانها "نظرية أرسطو في المكان".