للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

انطباق مكان على مكان. وإذا كان العلم يعتمد على القياس ويطلب الدقة الرياضية فذلك لأن عقلنا قوة تقيس وأن مجاله المستحب المكان والمادة، فيحاول أن يدخل على حياتنا النفسية تجانسًا يسمح بقياسها، وطريقته في ذلك أنه يسمي حالاتنا الباطنة فيتخيلها منفصلة بعضها عن بعض كالأسماء الدالة عليها ومرتبة بعضها تلو بعض كأنها على طول خط، وينقل الألفاظ المنطبقة على الماديات إلى المعنويات, فيصف ظواهرنا الوجدانية بالشدة أو بالضعف ويقارن بينها على هذا الاعتبار. ومن هنا تنجم الصعوبات في مسألة الحرية: فإننا نتصور دواعي العمل كأنها وقائع متمايزة تتظاهر على أحداث الفعل أو تتعارض، فنفرض أن الحرية قوة أخرى ناشئة من لا شيء هي التي تحدث الفعل أو تمنعه، والحقيقة أن ليس في عالم النفس آلية وجبرية, إذ إن الديمومة كيف محض وليست مركبة من أجزاء متجانسة قابلة لأن تتطابق؛ كما أنه ليس في عالم النفس خلق من لا شيء مقطوع الصلة بالماضي، ولكن الحرية عين صيرورة الأنا، والفعل الحر تقدم متصل يبدأ بضرب من العزم ثم ينمو هذا العزم وينضج مع النفس كلها إلى أن يصدر عنها كما تسقط الثمرة الناضجة من الشجرة. فالخطأ الأكبر قائم في الترجمة عن الزماني بالمكاني, وعن المتعاقب بالمتقارن.

د- ولكنا لا نرى أن برجسون أفلح في إثبات الروح والحرية. أجل, إن إباء الظاهرة النفسية للقياس يدل على أنها صادرة عن مبدأ مغاير للمادة، ولا يدل على أن هذا المبدأ مفارق للمادة. إن الإحساس والانفعال والتخيل والتذكر ظواهر نفسية وفسيولوجية معًا تتم في الأعضاء وبالأعضاء, فمحال أن تصدر من غير مشاركة الجسم. وقد غلا برجسون في رفضه إضافة الشدة إلى الظواهر النفسية ظنًّا منه أن الشدة لقبولها التفاوت قابلة للقياس كالكمية، والواقع أن الكيفية تختلف شدة، يشهد بذلك الفضيلة والملكة العلمية أو الفنية, فإنها تتفاوت درجة وتمكنًا دون أن يمكن تقدير هذا التفاوت تقديرًا عدديًّا. أما أن العقل قوة تقيس وأن مجاله المكان وحسب، فنظرية سيفصل برجسون القول فيها ويبين دلائلها عنده، وسنعود إليها. وأما أن الحرية هي التلقائية فهذا خلط بين الاثنتين: إن التلقائية مشتركة بين جميع الأحياء بل بين جميع الأجسام, فلئن كان الجماد لا يتحرك إلا بفعل خارجي, فإنه متى تحرك كانت حركته بفعل باطن ذاتي، إذ يمتنع أن

<<  <   >  >>