للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تكون الحركة شيئًا ينتقل من المحرك إلى المتحرك ويعمل فيه. وعلى ذلك ليس القول بأن الفعل الحر فعل تلقائي بمميز له من الفعل الآلي، ولا بمفيد معنى الحرية الذي هو الاختيار المروي لفعل مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده، ولكن مثل هذا الاختيار يقتضي جوهرًا ثابتًا مغايرًا للظواهر متحكمًا فيها، وقد ارتضى برجسون نظرية في العقل تبطل الاعتقاد بالجوهر كما سنرى.

هـ- لما عاد إلى مسألة الروح في كتابه "المادة والذاكرة" عرف الروح بأنها ديمومة وذاكرة، وميز بين نوعين من الذاكرة: ذاكرة هي عادة مكتسبة بالتكرار ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، مثل الذاكرة التي تعي شعرا أو نثرا محفوظا عن ظهر قلب؛ وذاكرة بحتة هي تصور حادثة انطبعت في الذهن دفعة واحدة، واحتفظت بخصائصها وتاريخها، مثل تذكري أني حفظت قصيدة. الذاكرة الأولى تردد الماضي والثانية تتصوره، وهي الذاكرة الحقة، وهي لا تحفظ في الجسم. ونحن نحفظ جميع الصور ونحمل ماضينا بأكمله في أدق تفاصيله. فالذاكرة هي الروح نفسها بما هي حياة وديمومة، ولكن الذكريات محفوظة في حالة أشباح غير منظورة؛ إذ إن الشعور خاصية الحالات النفسية الماثلة الآن الفاعلة الآن فحسب، وما ليس يفعل فلا يخص الشعور وإن كان لا ينقطع عن الوجود على نحو ما. وحياتنا الشعورية موجهة إلى العمل، ويبقى ماضينا وراءها في حالة ذكريات بحتة غير مشعور بها، عديمة الصلة بالحاضر, عديمة الفائدة العملية. ويتضح هذا بالنظر في الأحلام، فإنها تتناول ماضينا كله ولا تقتصر على حالة حاضرة معينة يحدها الانتباه والاهتمام كما يحدث في اليقظة. وتظهر الصور في مجال الشعور كلما أحوجنا إليها العمل، ومهمة الجسم هي أن يجيء بها إلى هذا المجال, فيحول الصور التي بالقوة إلى صور بالفعل، فإن الجسم "مركز عمل" هو "ممر الحركات الصادرة والواردة، وأداة الوصل بين الأشياء المؤثرة فينا وما نؤثر فيه من أشياء" ليس بوسعه أن يحفظ صورًا ولا أن يبعث صورًا، ولكنه يوفر للصور الوسيلة كي تصير مادية وتعود إلى الشعور. وفي حالة فقدان الذاكرة ليست الروح هي المعتلة بل الدماغ، وليس هناك محو للذكريات بل اضطراب في الأجهزة المحركة، وتبعًا لذلك يقلب رأي الماديين رأسًا على عقب, فإنهم يعتبرون الجسم هو الموجود حقا ويعتبرون الشعور

<<  <   >  >>