الأنواع الحية وتشتَّت بين الأفراد دون أن يفقد شيئًا من قوته, بل إنه يزداد قوة كلما تقدم" ويزداد شعورًا, فهو في النبات سبات وخمود, وفي الحيوان غريزة, وفي الإنسان عقل، وهذه طبقات مختلفة بالطبيعة لا بالدرجة فقط. أما المادة فقد نشأت من وهن التيار الحيوي أو توقفه، فما هي إلا شيء نفسي تجمد وتمدد، كما نشاهد في أنفسنا حين ندع فكرنا يجري اتفاقًا؛ فيتبدد في الآف من الذكريات تتخارج وتنتشر فتتراخى شخصيتنا وتتنزل في اتجاه المكان؛ أو كما نشاهد الماء يندفع من النافورة ويرتفع خطا كثيفا دقيقا ثم يهبط على شكل مروحية, وقد انفصلت نقطه المتراصة وتباعدت وتساقطت في مساحة أوسع. فالمادة شيء نفسي متراخٍ صار متجانسًا وقابلًا محضًا وحدًّا أدنى من الوجود والفعل, والعالم أجمع ديمومة أي: اختراع وتجديد وخلق وتقدم متصل.
ز- الآن نستطيع أن نفهم حقيقة المعرفة الإنسانية, فمتى كانت الصيرورة عين الوجود وعين نسيج الأنا، كان الثبات ظاهريا أو نسبيا، ولم يعد هناك أشياء أو جواهر بل عاد الوجود أفعالا وحسب, وعادت الأشياء والأحوال مشاهد يجتزئ بها عقلنا من الصيرورة، وكانت معانينا ناشئة من هذه التجزئة، ونحن نميل طبعا إلى تجميد مشاعرنا لنعبر عنها باللغة، وما المعنى الكلي إلا اسم يطلق على ذكريات تؤلف موقفًا معينًا بإزاء طائفة من الأشياء هي التي يطلق عليها الاسم. إن العقل عاجز عن تصور الحركة وعن تفسيرها, وهو لا يفهم حق الفهم إلا الجامد القابل للقياس, وحالما يتناول الزمان والكيف يترجم عنهما بلغة المكان والكم. وهو يستخدم معاني محدودة ثابتة لا تصيب شيئًا من إنية الموضوع أو فرديته ولا تساوق الموضوع في ديمومته. هو قوة التفكير المجرد المستدل، هو منبع حجج زينون المنكرة للحركة والكثرة، وقلما يعجز عن التدليل على قضيتين متناقضتين. فالمعرفة الحقة حدس يدرك الموضوع في ذاته، ولكننا لا نزاول هذا الحدس إلا نادرًا بسبب ما يقتضيه من توتر النفس في مجهود شاقّ مؤلم للنفاذ إلى باطن الموضوع ومتابعته في صيرورته. أما العقل فقد خلقه التيار الحيوي للعمل لا للنظر كما خلق الغريزة في الحيوان. الغريزة قوة استخدام آلات عضوية بل قوة تكوينها, والعقل قوة صناعة آلات غير عضوية. الغريزة إحساس لا استدلال، وهي تعمل دون تردد ولا تربية، وتعمل على نحو معين؛ والعقل