للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العقلي تراجعي؛ لأن للكائن العاقل خاصية لا توجد إلا له وحده وهي أنه لا يعمل بما هو عاقل إلا إذا تصور العمل وقدر له قيمة؛ فهو في جميع أفعاله المروية يصدر عن "أحكام تقويمية" تقدر قيم الأشياء وتقرر "الأفضل" أو "ما يجب أن يكون" وتبدو في ثلاث صور: "الحقيقة" في مجال النظر، و"الخير" في مجال العمل, و"الجمال" في مجال الإحساس. فأما الحقيقة فتبدو في التمثيل الذي ذكرناه؛ وأما الخير فهو تمثيل كذلك إذ إن القاعدة الخلقية حكم يصدره العقل بالعدول عن الغريزة وعن العاطفة الخاصة إلى أمر رفيع مشترك بين الناس, وجميع المذاهب الأخلاقية تقويمية بالضرورة، وأما الجمال أخيرًا فهو تمثيل وتقويم أيضا مهما يظن بأن قوامه الذوق الشخصي والأصالة الحرة, إذ إن الفن يرمي دائمًا إلى التعبير عن فكرة كلية أو عاطفة مشتركة.

هـ- ويظهرنا التاريخ على أن العقل قد عمل على توجيه التقدم الإنساني في الفرد والمجتمع، وجهة معارضة تمام المعارضة للغريزة والتطور المتنوع. أجل, لقد كان هذا العمل ضعيفًا بطيئًا متفاوت الحظ من النجاح، ولكنه كان مستقيما متصلا في تصميم وعناد. إن مذهب التطور يثير الغريزة ويبرر جموحها من حيث إنها مظهر القوة الحيوية، ويحاول أن يرد إليها استعداداتنا العقلية والخلقية على أن هذه الاستعدادات نماء الغريزة وازدهارها, فيخلط بين دائرتين لا اشتراك بينهما، ويتجاهل ثنائية الإنسان بالرغم من إلحاح الأخلاقيين فيها. ولما كان لا يميز بين الاخلاق والبيولوجيا، فإنه ينظر إلى الفتح والاستعمار كأنهما مظهران سائغان من مظاهر الحيوية، ويقدس الأنانية القومية، ويعد تقدمًا ورقيًّا تنظيم المجتمع على غرار التنظيم البيولوجي وما ينطوي عليه من تفاوت الأجزاء وإخضاع بعضها لبعض، فلا يرى سبنسر من غاية قصوى سوى ازدياد الحياة، ولا يرى دروين من وسيلة لتحسين الإنسان سوى مصلحة الفرد وانتخاب الأصلح كما في الحيوان. ومن هنا نشأت أخطاء أو أوهام هي أبلغ أخطاء عصرنا ضررًا. أما العقل فقد اتجه دائمًا إلى التقريب بين الناس؛ وإلى تكوين مجموعة من الحقائق تؤلف تراثا مشتركا بين الجميع وإلى الاستعاضة عن العلاقات القائمة على القوة بعلاقات صادرة عن العدالة؛ وإلى سن قوانين تستطيع الإرادات جميعا قبولها وتنفيذها طوعًا؛ وإلى إعلاء قدر الخيرات العقلية والروحية، وهي التي

<<  <   >  >>