ألفيناها تكونت وتضخمت شيئًا فشيئًا بتعاون رجال مختلفين، فجاءت كالثوب الملفق أو البناء المرمم. فإذا أردنا أن نقرر شيئًا محققًا في العلوم، كان من الضروري أن نشرع في العمل من جديد، فنطرح كل ما دخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، مثلنا مثل البناء يرفع الأنقاض ويحفر الأرض حتى يصل إلى الصخر الذي يقيم عليه بناءه، والأساس الذي نريد الوصول إليه هو العقل مجردًا خالصًا، فإن العقل واحد في جميع الناس، إذ إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا أناسيّ ويميزنا من العجماوات، فهو متحقق بتمامه في كل إنسان. وما منشأ تباين الآراء سوى تباين الطرق في استخدام العقل. ولسنا بحاجة إلى التدليل على كذب آرائنا السابقة ليسوغ لنا اطّراحها على هذا النحو، بل يكفي أن نجد فيها أي سبب للشك، إذ ليس الشك مقصودًا هنا لنفسه، بل لامتحان معارفنا وقوانا العارفة. ولسنا بحاجة كذلك إلى استعراض تلك الآراء رأيًا رأيًا، بل يكفي أن نستعرص المبادئ، فإن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء.
ب- إذن فأنا أشك في الحواس؛ لأنها خدعتني أحيانًا، ولعلها تخدعني دائمًا، وليس من الحكمة الاطمئنان إلى من خدعنا ولو مرة واحدة. وأنا أشك في استدلال العقل؛ لأن الناس يخطئون في استدلالاتهم، ومنهم من يخطئ في أبسط موضوعات الهندسة. فلعلي أخطئ دائمًا في الاستدلال، ومن دواعي الشك أيضًا أن نفس الأفكار تخطر لي في النوم واليقظة على السواء، ولست أجد علامة محققة للتمييز بين الحالتين، فلعل حياتي حلم متصل، أي: لعل اليقظة حلم منسق. ومما يزيد في ميلي إلى الشك أني أجد في نفسي فكرة إله قدير يقال: إنه كلي الجودة, وهو مع ذلك يسمح أن أخطئ أحيانًا، فإذا كان سماحه هذا لا يتعارض مع جودته، فقد لا يتعارض معها أن أخطئ دائمًا، ولكن ما لي ولله، فقد يكون هناك روح خبيث قدير يبذل قدرته ومهارته في خداعي، فأخطئ في كل شيء، حتى في أبسط الأمور وأبينها، مثل أن أضلاع المربع أربعة، وأن اثنين وثلاثة تساوي خمسة.
ح- ولكني في هذه الحالة من الشك المطلق أجد شيئًا يقاوم الشك، ذلك أني أشك، فأنا أستطيع الشك في كل شيء ما خلا شكي، ولما كان الشك