للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تفكيرًا فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجودًا فأنا موجود: "أنا أفكر وإذن فأنا موجود". تلك حقيقة مؤكدة واضحة متميزة خرجت لي من ذات الفكر. لها ميزة نادرة هي أني أدرك فيها الوجود والفكر متحدين اتحادًا لا ينفصم. ومهما يفعل الروح الخبيث فلن يستطيع أن يخدعني فيها؛ لأنه لا يستطيع أن يخدعني إلا أن يدعني أفكر, وإذن فأنا أتخذ هذه الحقيقة مبدأ أول للفلسفة. الفكر مبدأ لأنه وجود معلوم قبل كل وجود، وعلمه أوضح من علم كل وجود. هو معلوم بداهة، ومهما نعلم فنحن بفكرنا أعلم، فمثلًا لو اعتقدت أن هناك أرضًا بسبب أني ألمسها وأبصرها، فيجب أن أعتقد من باب أولى أن فكري موجود، إذ قد أفكر أني ألمس الأرض دون أن يكون هناك أرض، ولكن ليس من الممكن ألا أكون في الوقت الذي أفكر فيه. ثم أنا أتخذ هذه الحقيقة الأولى معيارًا لكل حقيقة؛ فكل فكرة تعرض لي بمثل هذا الوضوح أعتبرها صادقة. وتعريف الفكر بالإجمال أنه "كل ما يحدث فينا بحيث ندركه حالًا بأنفسنا" فحين أقول: إني شيء مفكر، أقصد "أني شيء يشك ويثبت وينفي، ويعلم قليلًا من الأشياء ويجهل الكثير، ويحب ويبغض، ويريد ويأبى، ويتخيل أيضًا ويحس"، والفكر صادر عن النفس أو هو النفس أو الروح, خالص ثابت عندي مهما أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام.

د- على أن اطمئناني إلى الوضوح ما يزال مفتقرًا إلى التثبيت، فقد يكون خالقي صنعني بحيث أخطئ في كل ما يبدو لي بينًا، أو قد يكون سمح للروح الخبيث أن يخدعني على الدوام. الحق أنه بدون معرفة وجود الله وصدقه، فلست أرى أن باستطاعتي التحقق من شيء البتة. أعود إذن إلى فكرة الله التي كانت سببًا من أسباب الشك، فأجد أنها فكرة موجود كامل، والكامل صادق لا يخدع إذ إن الخداع نقص لا يتفق مع الكمال. وعلى ذلك فأنا واثق بأن الله صنع عقلي كفئًا لإدراك الحق، وما عليَّ إلا أن أتبين الأفكار الواضحة, وصدق الله ضامن لوضوحها.

هـ- سنعرض بعد هنيهة أدلة ديكارت على وجود الله، ونقدر قيمتها، أما الآن فنقف عند هذه المراحل الثلاث الأولى من مراحل المنهج، وهي الشك المطلق، فوضوح الفكر، فالضمان الإلهي، ونسأل: هل هذا المنهج سائغ؟ أما الشك فلسنا نوافق على أنه فرضي منهجي كما يقول ديكارت، إذ لكي يكون

<<  <   >  >>