للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشك كذلك يجب أن يكون صوريًّا جزئيًّا، وديكارت يشك حقًّا في كل شيء، وهو يشك في كل شيء فيصبح شكه حقيقيا بالضرورة. إنه يصرح بأن "ليس هناك شيء إلا ويستطيع أن يشك فيه على نحو ما" فإذا ما أحس أن مثل هذا الشك الكلي معارض لطبيعة العقل، استعان بالإرادة وقال: "أريد أن أعتبر كل ما في فكري وهمًا وكذبًا" وافترض الروح الخادع وألح على فكره إلحاحًا عنيفًا لكي يحقق في نفسه حالة الشك الصحيح. فلو أنه قصر الشك على الأمور غير البينية المفتقرة إلى برهان، واستثنى المبادئ الأولية البينة بذاتها، لأمكنه الاستناد على هذه المبادئ للخروج إلى اليقين. ولكنه يشك في العقل ذاته، فشكه كلي حقيقي يمتنع الخروج منه. يذهب بعض المؤلفين إلى أن الشك الديكارتي ليس كليا مثل شك الشكاك، وذلك لسببين: الأول أن الفيلسوف يقصد إلى تبرير اليقين بعد المضي في الشك إلى أقصى حدوده، والثاني أنه يستثني بالفعل العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية. ولكن إرادة تبرير اليقين ترجع إلى نية الفيلسوف, وليست النية بمغيرة شيئًا من الموضوع. واستثناء العقائد والأخلاق والتقاليد لا يعني أن الفيلسوف موقن بها ذلك اليقين الذي ينشده، فإن العقائد أسرار تفوق العقل، والأخلاق والتقاليد من الضروري التزامها قبل الشك وأثناءه "لأن أفعال الحياة غالبًا ما لا تحتمل الإرجاء" كما يقول ديكارت نفسه، وأن "ليس من الفطنة التردد في العمل بينما يضطرنا العقل إلى التردد في الأحكام" ١. كذلك يذكرون قوله: "إذا اعتبرنا المعاني في أنفسها دون نسبتها إلى شيء آخر، فلا يمكن أن تكون كاذبة" "التأمل الثالث". ولكن لسنا هنا بإزاء يقين مستثنى من الشك، بل بإزاء تعليق للتصديق من حيث إن الصدق والكذب يقومان في الحكم, لا في تصور المعاني.

وأما مبدؤه "أنا أفكر وإذن فأنا موجود" فيثير مسألتين: إحداهما تاريخية، والأخرى فلسفية. مدار المسألة التاريخية على مبلغ أصالة ديكارت في هذه المرحلة من منهجه. فقد استخدم القديس أوغسطين الشعور بالفكر كشاهد من شواهد اليقين، ويوجد شبه قوي بين ألفاظه وألفاظ ديكارت، لحظه العارفون من أول الأمر ونبهوا عليه، فنفى ديكارت عن نفسه شبهة الأخذ عن أوغسطين،


١ مقال في المنهج، القسم الثالث, مبادئ الفلسفة, القسم الأول، فقرة ٣.

<<  <   >  >>