وقال: إنه ذهب إلى مكتبة "ليدن" في اليوم نفسه وقرأ النص فوجد أن أوغسطين يستخدم الفكر للتدليل على الوجود الذاتي، وعلى أن فينا صورة ما للثالوث من جهة أننا موجودون، ونعلم أننا موجودون، ونحب ما فينا من وجود وعلم، بينما هو يستخدمه ليدلل على أن الأنا المفكر جوهري لا مادي، وأن الغرضين مختلفان جد الاختلاف، وأن استنتاج الوجود الذاتي من الشك أمر من البساطة بحيث كان يمكن أن يهتدي إليه أي كان. نقول أولًا: إنه كان شديد الاعتداد بنفسه، قوي الإيمان بجدة مذهبه، حتى ادعى أنه لا يدين بشيء لأحد من المتقدمين، وأن الآراء المشتركة بينه وبينهم مؤسسة عنده على نحو مغاير بالمرة لما عندهم. وهو يذكر أفلاطون وأرسطو وأبيقور وتليزيو وكامبانيلا وبرونو، ويصرح بأنه يعرفهم ولكنه لم يتعلم منهم شيئًا من حيث إن مبادئه غير مبادئهم، اللهم إلا كبلر. ويصعب علينا تصديق دعوى ديكارت أنه لم يكن يعرف نصوص أوغسطين، ولعله أراد أنه لم يقرأها في كتبه، ولكنه عرفها بالواسطة بلا ريب، فإنها مشهورة وكانت كتب أوغسطين متداولة، وكان مذهبه شائعًا، وكان أول عرض قام به ديكارت لمذهبه بحضرة الكردينال دي بيريل الأوغسطيني. أما أن الغرضين يختلفان، فهذا ما لا يمكن ادعاؤه إطلاقًا، فإن أوغسطين هو أيضًا يستخدم وجود الفكر للتدليل على روحانية النفس، ولرفع الشك، ويمضي من الفكر إلى وجود الله كما يفعل ديكارت. فوجود الفكر مبدأ المذهبين، وقد غلط بسكال حين قال: إن أوغسطين كتب تلك الكلمة عفوًا دون أن يطيل التفكير فيها, ودون أن يتوسع فيها، على حين أن ديكارت أدرك في هذه الكلمة سلسلة بديعة من النتائج تبرهن على تمايز الطبيعتين المادية والروحية, وجعل منها مبدأ وطيدا مطردا لعلم طبيعي بأكمله ١. وكيف يكون أوغسطين قال هذه الكلمة عفوًا واتفاقًا، وهو يذكرها ست مرات؟ وكيف يقال: إنه لم يطل فيها التفكير ولم يتوسع فيها، وقد قصد بها إلى إدحاض الشك، والتدليل على وجود النفس وروحانيتها، وعلى وجود الله كما تقدم؟ بيد أنه يبقى أن وجود الفكر هو عند ديكارت حالة فذة يتجلى فيها اليقين، ومبدأ للفلسفة سيخرج منه كل يقين؛ وأنه عند أوغسطين حالة جزئية من حالات اليقين، ربما كانت