للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أوضحها عند مناقشة الشكاك، إلا أنها لا تخرج عن كونها واحدة منها، وهذا فرق في مصلحة أوغسطين؛ إذ إنه لا يستهدف للدور الذي وقع فيه ديكارت حين نظر إلى الفكر كأنه مجرد شعور فلم يستردّ اليقين بموضوعات الفكر إلا بالالتجاء إلى صدق الله، وفكرة الله نفسها أحد هذه الموضوعات.

ز- ومدار المسألة الفلسفية على جواز اتخاذ الفكر الخالص مبدأ أول والذهاب منه إلى موضوعات مغايرة له. إن هذا لا يجوز، فقد نستوثق من فكرنا "وأي شاك شك في فكره؟ " ثم لا نستوثق من شيء آخر على الإطلاق. والأمر واضح عند ديكارت كل الوضوح، فإن الروح الخبيث ما يزال ظله محلقًا فوق أفكارنا مهما تكن جلية متميزة، وإن فاته خداعنا في وجود الفكر، بقي سلطانه كاملًا على موضوعات الفكر، فيمتنع التقدم خطوة واحدة. وليس صدق الله بمجدٍ شيئًا في طرد الروح الخبيث؛ لأن فرض هذا الروح سابق على معرفتنا بالله، فيجب الشك في هذه المعرفة ذاتها، وديكارت لا يخرج من شكه إلا بدور ظاهر. فمن جهة يجب للبرهنة على وجود الله الاعتماد على العقل والأفكار الواضحة كوسائل لا تخدع، ومن جهة أخرى لأجل التحقق من أن العقل والأفكار الواضحة لا تخدع, يجب العلم أولًا بوجود الله وصدقه. فالواقع أن المنطق كان يقضي على ديكارت أن يظل على شكه يردد طول حياته قوله: "أنا أفكر وأنا موجود" مثله مثل ذلك الشاك اليوناني الذي عدل عن الكلام مخافة الاضطرار إلى الإيجاب والسلب. ولكن ديكارت لم يكن ليرضى بهذا الموقف، وكما "أراد" الشك كليًّا، فقد "أراد" الوصول إلى اليقين وضمان العلم مهما يكن من أمر المنطق.

٣٤ - التصور والوجود:

أ- قبل أن نتابع ديكارت في سيره نحو اليقين والعلم، نريد أن نلفت النظر إلى أن شكه المطلق ينطوي على تصورية مطلقة هي روح المذهب ونقطته المركزية. التصور عند ديكارت تصور بحت لا إدراك شيء واقعي، والفكر عنده لا يدرك إدراكًا مباشرًا غير نفسه، وإلا لما أمكن الشك في موضوعاته.

<<  <   >  >>