فديكارت إذ يأبى في مرحلته الأولى أن يقبل شيئًا من دون الفكر، فيؤمن بتفكيره في السماء والأرض ويشك في وجودهما، يفصل بين ما لأفكارنا من وجه ذاتي وما لها من وجه موضوعي، ومن ثم يفصل فصلًا تامًّا بين الفكر والوجود، ليس فقط الوجود الخارجي، بل أيضًا وجود المفكر نفسه. وقد أنكر بعضهم على ديكارت اتخاذه عبارة "أنا أفكر وإذن فأنا موجود" مبدأ أول, وقال: إن هذه العبارة قياس إضماري حذفت منه المقدمة الكبرى وهي "ما يفكر فهو موجود" وإن الأولى وضع هذه المقدمة موضع المبدأ الأول. فرد ديكارت أن هذه العبارة ليست قياسًا، ولكنها حدس يدرك وجود المفكر في الفكر. ونحن نرى أنها كذلك إذا اعتبرنا الفكر قوة مدركة للوجود، أما إذا اعتبرناه إدراك أفكار أو ظواهر، تعين علينا أن ندلل على وجود المفكر؛ وسنرى لوك وهيوم وكانت ينازعون في صحة هذا التدليل.
ب- أما الأشياء الخارجية، فإذا سألنا ديكارت عن علة الأفكار التي نمثلها، أجاب قائلًا: قد أكون أنا تلك العلة؛ إذ ليس من الضروري أن تصدر الأفكار عن أشياء شبيهة بها، بل قد تصدر عن علة حاصلة بالذات على الكمال الممثل فيها، أو عن علة حاصلة عليه على نحو أسمى، وأنا حاصل على الفكر بالذات، فأستطيع أن أؤلف فكرة الملاك، وأنا حاصل على حقائق الأجسام على نحو أسمى لأن الجسم دون الفكر، فأستطيع أن أؤلف أفكار الأجسام. ومع ذلك سيطلب ديكارت أصولًا خارجية لأفكار الأجسام يجعلها موضوع العلم الطبيعي، وسيتخذ سبيلًا إلى ذلك وجود الله وصدقه. فأمامنا إذن مسألتان، الواحدة هي: هل أفكارنا صادقة؟ والأخرى هي: هل لأفكارنا موضوعات في الخارج؟ وديكارت يقدم الأولى على الثانية كما يقتضي مبدؤه التصوري. يقول:"قبل أن أفحص عما إذا كان هناك أشياء خارجية، يجب أن أنظر في أفكاري من حيث هي كذلك، وأن أتبين أيها واضح وأيها غامض". فالفكرة الواضحة صادقة ويقابلها موضوع؛ أما الفكرة الغامضة فانفعال ذاتي. وهذا يعني أن العالم الخارجي لا يعلم إلا بعد أفكاري وعلى مثالها، وأن الحقيقة "أي الوضوح" سابقة في علمي على الوجود، وأنها عبارة عن جسر بين الفكر المعلوم أولًا والأشياء المعلومة بعده وتبعًا له. وهذا هو المذهب التصوري