"إيديالزم" ١ ابتدعه ديكارت وتابعه فيه الفلاسفة المحدثون، فوقعوا في إشكالات لا تحصى. وظن ديكارت أن صدق الله يحل المسألتين ويرد إلى المعرفة قيمتها والواقع أنه يهدمها هدمًا، إذ لو كان لدينا وسيلة طبيعية للمعرفة الحقة، لما افتقرنا إلى الضمان الإلهي، ولو كانت قوانا العارفة تؤدي وظيفتها كالواجب، وتمضي بالطبع إلى الحقيقة، لحملت في نفسها علامة صدقها، ولعلمنا ذلك قبل الالتجاء إلى الضمان الإلهي؛ أما افتقارنا إلى ضمان خارج عن العقل والحواس، فأدعى إلى التشكك في الله وحكمته وجودته.
ح- وللتمييز بين الصادق والكاذب من الأفكار، تمهيدًا للخروج من التصور إلى الوجود، يرتب ديكارت الأفكار في طوائف ثلاث: الأولى أفكار حادثة أو اتفاقية، وهي التي يلوح لنا أنها آتية من خارج، أي: التي تقوم في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج، كاللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وهي غامضة مختلطة. الطائفة الثانية أفكار مصطنعة، وهي التي نركبها من أفكار الطائفة الأولى، كصورة فرس ذي جناحين، أو صورة حيوان نصفه إنسان ونصفه فرس، وما شاكل ذلك. والطائفة الثالثة أفكار غريزية أو فطرية، ليست مستفادة من الأشياء ولا مركبة بالإرادة، ولكن النفس تستنبطها من ذاتها؛ وتمتاز هذه الأفكار بأنها واضحة جلية بسيطة أولية، وهي التي تؤلف الحياة العقلية بمعناها الصحيح، كفكرة الله والنفس والامتداد وأشكاله والحركة وأنواعها والعدد والزمان وغيرها. وقد سئل ديكارت في هذه الأفكار، فقال: إنه يقصد بكونها غريزية أن فينا قوة تحدثها، وبكونها طبيعية أنها في النفس على نحو ما نقول: إن السخاء أو إن مرضًا ما طبيعي في بعض الأسر، وقال: إنها ليست مرتسمة في العقل كأبيات الشعر في الديوان، ولكنها فيه بالقوة كالأشكال في الشمع، وإنها في عقل الطفل على نحو ما هي في عقل الراشد حين لا يفكر فيها. ويعود إلى علة الأفكار، فيقول: إن أفكار الطائفة الأولى
١ قيل: "مثالية" في ترجمة "إيديالزم". وقد رأينا أن نقصر لفظ "مثالية" على النسبة إلى نظرية أفلاطون في المثل والنسبة إلى المثل الأعلى، وأن نقول "تصورية" للدلالة على المذهب الذي عرفناه فوق. والإفرنج إذ يستعملون لفظًا واحدًا هو "إيديالزم" يضطرون إلى تعيينه بقولهم: idobjectif دلالة على النظرية الأفلاطونية و idsubjectif دلالة على المعنى الآخر.