والثانية لا تتطلب علة غير النفس، فإنها عبارة عن انفعال النفس بالمؤثرات الخارجية وتركيب الانفعالات بعضها مع بعض. أما الأفكار الفطرية فإنما تمثل "طبائع بسيطة وحقائق موضوعية" فمن الخطأ الظن أن العقل علتها الكافية. إن العقل علة كافية للفكرة من حيث هي فعل نفسي، لا من حيث موضوعها. وعلى ذلك يجب استعراض الأفكار الفطرية والنظر فيما إذا كانت تفسر بالفكر وحده أو تقتضي علة خارجية. ذلك سبيلنا للتخطي من التصور إلى الوجود.
٣٥ - الله والحقيقة:
أ- أجل؛ إذا عثرت على فكرة تفوق حقيقتها الموضوعية كل ما فيّ بحيث لا أكون علة هذه الفكرة، علمت أني لست وحيدًا في العالم. والواقع أني أجد بين أفكاري فكرة الله، أعني فكرة موجود كامل لامتناهٍ. وهذه الفكرة واضحة متميزة، فإنها تحوي كل ما أتصور من كمال. من أين جاءتني؟ هل أقول: إني استنبطتها من نفسي؟ ولكني موجود يشك ويتردد كما رأينا، والشك علامة النقص, إذ من البين أن العلم خير منه، فكيف أستطيع استحداث فكرة الكامل وأنا ناقص؟ هل أقول: إنها جاءت من الأشياء الخارجية؟ ولكنها لا تخطر لي أبدًا على غرة مثل أفكار المحسوسات، والعالم الخارجي ناقص مؤلف من أشياء كل منها محدود، ومهما أجمع أشياء أو أفكارًا ناقصة بعضها إلى بعض، فلن أبلغ إلى تأليف فكرة الكامل اللامتناهي. هذا إلى أن هذه الفكرة بسيطة لا مجال فيها لتأليف وتركيب، من حيث إنها تمثل موجودًا واحدًا حاصلًا على جميع الكمالات, وإني لا أستطيع أن أنقص منها أو أزيد فيها شيئًا. ولا يمكن أن يقال: إني لا أتصور الكامل اللامتناهي بفكرة محصلة، بل بإدخال السلب على فكرة النقص والتناهي التي أجدها في نفسي، إذ ليست فكرة الكامل اللامتناهي معدولة تمثل عدمًا وسلبًا، ولكنها محصلة تمثل موجودًا هو أكمل موجود، بل الواجب أن يقال على العكس: إني إنما أتصور النقص والتناهي بالحد من الكمال واللاتناهي، ولو لم تسبق لي فكرة موجود كامل لا نقص فيه، لما استطعت أن أعتبر نفسي ناقصًا. وإذن فليست هذه الفكرة حادثة ولا مصطنعة، ولا يبقى إلا أنها فطرية بسيطة أولية.