ب- إذا تقرر هذا قلت: إن كل ما أتصور بوضوح حصوله لماهية ما فهو حاصل لها، أو كل محمول متضمن في فكرة شيء فهو صادق على هذا الشيء؛ فمثلًا حين أتصور المثلث، أتصور ماهية ثابتة لم أخترعها وليست متعلقة بفكري, فلا أستطيع أن أعدل فيها زيادة أو نقصانًا، وأنا أتصور في ماهية المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين، وهذا صحيح عن المثلث, وهكذا في كل ماهية.
فإذا عدت إلى فكرة الكامل وجدتها تتضمن الوجود بالضرورة؛ لأن الوجود كمال ولو كان الكامل غير موجود لكان ناقصًا مفتقرًا لموجد، وهذا خلف. فوجود الله لازم من ذات فكرة الله، أي: من مجرد تعريفه. وقد يبدو هذا القول مغالطة، ولكن ذلك وهم، سببه أننا نميز بين الوجود والماهية في سائر الأشياء، فتحملنا العادة على اعتقاد إمكان فصل الوجود عن ماهية الله. أما إذا تدبرنا الأمر، وجدنا ماهية الله تقوم في حصول جميع الكمالات، وأن فكرة الله هي الفكرة الوحيدة التي تتضمن الوجود كمحمول ذاتي، فلا يمكن فصله عن الماهية، كما لا يمكن فصل فكرة الوادي عن فكرة الجبل. وهذا دليل أول على وجود الله، وهو دليل القديس أنسلم, مهد له ديكارت ودعمه ببيان أصالة فكرة الله، ويعد هذا البيان نصيبه الخاص في إقامة الدليل.
ح- إذا انتقلت من النظر في مفهوم فكرة الله إلى الفحص عن علتها، كان لي دليل ثانٍ على وجود الله. قد سبق القول أن لها من الحقيقة الموضوعية أو الكمال ما يفوقني إلى غير حد، فلا يمكن إلا أن تكون صدرت إلا عن علة كفء لها، أي: عن موجود حاصل بالفعل على الكمال الممثل فيها. ورب قائل يقول: لعلي أعظم مما أظن، ولعلي حاصل بالقوة على الكمالات التي أضيفها إلى الله، ولعل هذه القوة على اكتساب الكمالات بالتدريج كافية لتوليد تصور هذه الكمالات في نفسي. ولكن لا، فمن الجهة الواحدة الله موجود كله بالفعل، وفكرة موجود كامل بالفعل تفوق كل اكتساب الكمال بالتدريج, ومن جهة ثانية ليس يمكن تحقيق اللامتناهي بزيادات متتالية، إذ إن كل ما هو متناهٍ فهو قابل للزيادة دائمًا، فالظن بأن موجودًا متناهيًا يستطيع الوصول بالتدريج إلى اللامتناهي ظن متناقض، وأخيرًا العلة التي بالقوة ليست شيئًا وليست علة،