للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعن غيره، ونحصر النظر في فكرة الله التي يبني عليها ديكارت أدلته الثلاثة. هل صحيح أنها محصلة جلية متميزة؟ الواقع أنها مكتسبة بالاستدلال، فالأصل فيها ضرورة تفسير الموجود المتغير بإسناده إلى علة، وضرورة الوقوف عند علة أولى في سلسلة العلل، وإلا بقي الموجود المتغير بدون تفسير، وضرورة إيجاب الوجود لهذه العلة الأولى، إلا لم تكن أولى. فديكارت يتناول هذه الفكرة كما كونها الفلاسفة واللاهوتيون المدرسيون ويعتبرها أولية، فيبدأ من حيث انتهوا، ويعتبرها محصلة، ولو كانت كذلك لاستوى فيها كل الناس، ولأظهرتنا على ماهية الله كما هي، والواقع يرد هاتين النتيجتين، وديكارت نفسه يقر بهذا الواقع فيقول "في التأمل الثالث": "أجل, إني لا أفهم اللامتناهي، وإني أجهل أمورًا كثيرة فيه، ولكني متى علمت أنه حاصل على جميع الكمالات التي أتصورها، وفهمت حق الفهم أن تمام الإحاطة باللامتناهي ممتنع على موجود متناهٍ مثلي، فقد حصلت على فكرة عنه جلية جدًّا ولو أنها ناقصة جدًّا". نقول: إذا كانت الفكرة ناقصة إلى هذا الحد، فليست صورة حقه للامتناهي تفيدنا معرفته كما هو, وإنما هي فكرتنا نحن عنه، أو بعبارة أدق هي جملة أحكامنا بأن الله موجود, وبأن له كذا وكذا من الصفات، أي: إن تلك الفكرة فعل عقل متناهٍ ناقص يتعقل الكامل اللامتناهي كما يستطيع. فديكارت إذ يقول: إنها محصلة، يخلط بينها وبين موضوعها، فإن هذا الموضوع الذي هو الله موجود حق، أما فكرتنا عنه فليست صورة أو معنى شبيهًا به، وإلا كانت تظهرنا على حقيقة اللامتناهي إظهارًا كليًّا كما قلنا، وهذا غير صحيح. ولكن ديكارت، وقد قطع الصلة بين الفكر والوجود، اضطر لوضع الأفكار موضع الموجودات واعتبارها أشياء قائمة بأنفسها. وهو بقوله: إن فكرة الله محصلة، وبفصله بينها وبين الاستدلال الذي ينتجها ويسوغها، يمهد السبيل لاعتبارها مجرد صورة فكرية أو وهمًا ضروريًّا كما يقول كانت، أو تشخيصًا للمجتمع كما يقول الاجتماعيون، أو ما إلى ذلك من أقاويل.

ووما دامت هذه الفكرة دعامة الأدلة الثلاثة, فقد انهارت هذه الأدلة بانهيارها. ذلك بأن الوجود المتضمن في فكرة الله محمول من جنس الفكرة، أي: محمول متصور فحسب, وليست الفكرة صورة حقة لموضوعها, فقد زال عنها امتيازها وأضحت, فإذا بينها وبينه مثل ما بين سائر الأفكار وبين موضوعاتها من

<<  <   >  >>