تشتد تارة وتخفّ أخرى, فأشار عليه الأطباء باللهو وترك التفكير. فأخذ يغشى المجالس، واتصل بنفر من المتعاملين الزنادقة، وقرأ أبكتاتوس، وقرأ مونتني، فكان لكل ذلك أثر في مذهبه. وفطنت أخته الراهبة إلى ما في هذه الحياة الجديدة من خطر على فضيلته ودينه، وأقنعته بالإقلاع عنها واعتزال العالم, وكان حينذاك في الثلاثين. وبعد سنين لجأ إلى دير "بور روايال" وعاش فيه إلى مماته يعاني آلام المرض بصبر وتسليم، ويستأنف العمل العلمي كلما استطاعه. وإلى ذلك العهد يرجع جمعه "لخواطره" في الدعوة إلى الدين، وهو أشهر كتبه، وهو كتاب خالد حقًّا. وإلى ذلك العهد ترجع أبدع مكتشفاته الرياضية، فقد أسس حساب النهايات: حساب التكامل وحساب الاحتمالات، ونظريات أخرى، أهمها نظرية "الروليت" وقد دعا العلماء إلى المسابقة فيها "باسم مستعار" وعين جائزة مالية للفائز، فتنافس كثيرون، ولكن أحدًا لم يوفق إلى الحلول المطلوبة, فأعلن هو حلوله، فكانت موضع الإعجاب العام.
٤١ - منهجه:
أ- رأيناه يؤثر التجربة على الاستدلال, فيؤمن بالخلاء البادئ للحواس وينكر على أرسطو وديكارت استدلالهما على امتناعه. فهو إذن لا يرى أن تحل المسائل الطبيعية باستنباط نتائج من مبادئ، بل بالتجربة. فلا يعتقد، خلافًا لديكارت، بمنهج واحد يطبق على جميع الموضوعات، بل يذهب إلى أن لكل موضوع منهجًا ينبغي ابتكاره؛ وذلك لأنه مقتنع بتنوع الطبيعة إلى جانب خضوعها لقوانين عامة، فيسلم بوجوب "القول بالإجمال: إن الأشياء تعمل بالشكل والحركة لأن هذا حق؛ أما تعيين الأشكال والحركات، وتركيب آلة العالم فمضحك؛ لأنه عديم الجدوى وموضع ريب وعسير""خاطرة ٧٩ ".
ب- وحين يقول: إن المبادئ حق، يعني أننا نحسها ونسلمها، لا أننا نتعقلها ونبرهن عليها. إنه يرى أن كمال الطريقة الهندسية يقوم بحد كل شيء والبرهنة على كل شيء، وأن هذا عمل لا ينتهي، فنقف عند أوليات لا تحد ولا تبرهن؛ ولكن هذه الأوليات ليست طبيعية، فإن الطبيعة تتغير باستمرار "وليس هناك من مبدأ، مهما يكن طبيعيًّا مألوفًا منذ الطفولة، إلا ويمكن القول: