للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويخرج من هذه المحاولة بأن لا نسبة بينه وبين الطبيعة، وأن العلم ممتنع لامتناع الوقوف على جميع العلل والمعلولات كما يريد العقل الذي يطلب معرفة الأجزاء وانتظامها في الكل، معرفة البداية والنهاية، فلا يفوز إلا بشيء من الوسط. فإذا تحول عن الطبيعة ليتجه إلى نفسه، وجدها ألعوبة بين أيدي قوى خداعة: فالمخيلة تشوه الأشياء، تكبر الصغير وتصغر الكبير، وتملي عليه رغباتها، وتغره بسعادة زائفة زائلة تقود عقله خفية, بينما يتوهم العقل أنه هو الذي يقودها؛ والمنفعة تعميه؛ والعادة تكون شخصيته كما تشاء الظروف الخارجية, فماذا يبقى للإنسان إلا أن ينساق مع الاضطراب العام، فيتعامى عن نفسه وعن بطلان الحياة الدنيا؟ هذا موقف حقير، ولكنه أحكم موقف إذا كانت تلك حال الإنسان. بيد أن الإنسان، من الناحية الأخرى، إذا كان قصبة، فإنه قصبة مفكرة؛ وإذا كان العالم يحتويه ويبتلعه كالنقطة، فإنه بفكره يحتوي العالم " ٣٤٨ ". أجل؛ ليس بالعالم من حاجة للتسلح كي يحطمه, يكفي لقتله شيء من البخار أو نقطة ماء، ولكنه أشرف مما يقتله؛ لأنه يعلم أنه يموت ويعلم ما للعالم من ميزة عليه، والعالم لا يدري من هذا شيئًا " ٣٤٧ ".

د- وليس يوجد التناقض في طبيعة الإنسان فحسب، ولكنه يوجد أيضًا في المواقف الفلسفية من اليقين. الاعتقاديون والشكاك في حرب متصلة، ولكل فريق موضع خطأ، فإننا عاجزون عن البرهنة عجزًا لا يقوى عليه المذهب الاعتقادي، ولدينا فكرة عن الحقيقة لا يقوى عليها مذهب الشك. ويوجد التناقض أيضًا في أفعال الإنسان ومحدثاته, نعتقد بوجوب سيادة العدالة في الدول وبقوانين طبيعية يجب أن تحتذيها القوانين المدنية " ٣٠٩، ٣٧٥ " ولكن العدالة التي وضعت بالفعل تختلف باختلاف الدول، تحرم في الواحدة ما تبيحه في الأخرى. "لسنا نرى عدلًا أو ظلمًا إلا ويختلف كيفًا باختلاف الإقليم: ثلاث درجات ارتفاع من القطب تقلب الفقه كله، ودرجة من درجات الطول تقرر الحق. إنها لعدالة مضحكة تلك التي يحدها نهر! الحق في هذه الجهة من البرانس، والباطل فيما وراءها".

هـ- جميع النقائض ترجع إلى تناقض العظمة والحقارة. إن في الإنسان قوة طبيعية للخير والحق والسعادة؛ غير أن هذه القوة تنصرف إلى موضوعات

<<  <   >  >>